ذكر ميلان كونديرا في كتابه «الستارة»، أنه ألح على صديق له، وهو كاتب فرنسي أن يقرأ للكاتب غومبروفيتش، ليلتقيا بعد زمن، ليقول ذلك الصديق لكونديرا: «لم أفهم سبب حماستك لغومبروفيتش»! فاستفسر منه كونديرا وإذا به قرأ أول رواية لغومبروفيتش، التي اعتراها ما يعتري البدايات، وكتبها باسم مستعار، وكانت تنزل منجمة في إحدى الصحف، فدله كونديرا على أعمال أخرى، فنظر إليه متحسراً فقال: «الحياة تقصر أمامي يا صديقي، والمدة الزمنية التي وفرتها لمؤلفك أُستنفدت»! إسطاسية خيري شلبي صدرت طبعتها الأولى من دار الشروق في كانون الثاني (يناير) عام 2010 وبعد شهر نفدت، لتطبع الطبعة الثانية في شهر آذار (مارس) من العام نفسه، وأهم من هذا إدراج هذه الرواية في قائمة البوكر الطويلة، ما جعل القراء يتهافتون على الرواية، ثم إن الكاتب يعتبر من أهم كتّاب الرواية في العالم العربي، والحائز على جوائز في الأدب، وله أكثر من 70 كتاباً، وترجمت أعماله إلى الإنكليزية والفرنسية وأغلب اللغات الحية، كما هو مدوّن في ظهر الرواية. بدأت الرواية بفصلها الأول «إحياء النار»، كانت بداية ملتهبة، تمكّن فيها الكاتب من تصوير «منية الكردي» بعدسة سينمائي محترف، ودعم الصورة بلغة قوية محلّقة وسلسة، ثم خمدت تلك النار في الفصول التالية، خصوصاً تلك الفصول التي جاءت محكية على ألسنة شخوص الرواية، وتتخلل الفصول الأصلية التي سردها بطل الرواية «حمزة البراوي» تلك الفصول المحكية للشخصيات الهامشية في الرواية التي سببت خللاً في السرد، واعتمد الكاتب لها لغة ممسوخة، لا هي فصحى ولا عامية، لم يوفق خيري شلبي في استخدام لغة ثابتة مستقرة، إذ إنه خلط العامي بالفصيح بشكل مؤذ ومشتت للقارئ، فلا هو جعلنا ننعم بعربية فاتنة – وهو يملك الزمام - وحرمنا من لهجة عامية مصرية لذيذة، وما أجمل التوظيف لو كان، إذ إنها تصدر من أناس بسطاء ومن أهل ريف متواضع، ثم إن الكاتب ابتلي بتفسير الكلمات والجمل والأمثلة والحكم المحلية، وكأن الثقافة المصرية واللهجة المصرية في عزلة عن العالم العربي، في وقت تكاد تكون اللجهة المصرية هي اللهجة المألوفة في العالم العربي، نظراً لهيمنة الاعلام، وقرب الإنسان المصري من الجميع، وتصدره في جميع شؤون الحياة في العالم العربي، سواء على المستوى السياسي أو الإعلامي أو الثقافي. كما أن الرواية حوت بعض الفصول المجانية، التي لم تقدم شيئاً على مستوى الحدث، مثل الفصول التي كانت تخص القصّاب عبدالعظيم عتمان، بينما في الطرف المقابل تخرج لنا في آخر الرواية شخصية «طنط نور» التي لم يتحدث عنها السارد، وهي زوجة خاله وأم حبيبته، التي عاش في بيتها في الأوقات التي ينزل فيها إلى طنطا، وجاء ذكرها بشكل عرضي ومقتضب جداً، ولم توظف الشخصية بشكل يدعم العمل، على رغم أنها ستسهم في ذلك بشكل قوي لو فعل. خط سير الرواية كان متشظياً إلى حد فقدان الحبكة، ففي الوقت الذي تشخص فيه النفوس متلهفة إلى حادثة مقتل محفوظ بن إسطاسية ونارها ونواحها، إذا به يتحدث عن حمزة العاشق، ثم ينتقل للحديث عن أبناء عمومته، ثم ينتقل للحديث عن القانون والمهنة، ويرجع للحادثة، ثم يتحدث عن ضجره من أسرته، ثم يعرج على الحدث الذي خف وهجه في نفس القارئ. طبعاً جاءت كل فصول الرواية مسرودة بضمير المتكلم على لسان شخوص الرواية، لكن في آخر الفصل التاسع يحضر بشكل فج وغير مقنع الراوي الخفي الذي يخبرنا بأن حمزة تجول بأمه في مدينة طنطا وذهبا للتسوق، وصلى في مسجد السيد البدوي، ص161، ليذهب الراوي الخفي من الرواية، بعد أن قام بهذه المهمة الصعبة في النص! ومما أسهم في خلل البنية الروائية، الإنشائية غير المبررة، والخطابية المستهلكة حول المواطن والوطن، وما يصاحبها من مواعظ أخلاقية توصي بعدم قطع الإشارة ورمي أعقاب السجائر في الطرقات! حتى النهاية لم تتضح فيها حنكة الكاتب، وإنما جاءت بشكل فاتر، ليأتي شخص يحكي كيف قتل محفوظ ابن إسطاسية، ويتزوج حمزة من رندا، ليفتح بعد ذلك مكتب محاماة في البلد، ويتفاجأ بدخول إسطاسية لمكتبه، لترفع قضية ضد عمه عابد الذي اغتصب أرضها، فتفرض عليه أخلاقيات المهنة أن يقبل قضيتها. نهاية تقليدية جداً تذكرنا بنهايات الحكايات التي ترويها الجدات لنا قبل النوم! أما بالنسبة للأخطاء المعرفية والفنية، والأخطاء في بناء الشخصيات، فحدث ولا حرج منها: فوباء جنون البقر يسهم في تصفية مزرعة الدجاج «فلم تعد لها قائمة» ص 145! وحمزة المحافظ على الصلاة الذي يحضر الجمعة مع الناس وسليل الفقيه الذي تخرج في الأزهر، فجأة ومن دون حيثيات يعتنق نظرية داروين، اذ يرى أن خاله عبدالودود «نسخة من جدنا القرد بعد مرحلة الوقوف على قدمين» ص 165. على رغم العيش في منزل واحد، والعلاقة العاطفية بين حمزة وابنة خاله رندا التي تهندمه وتقبّله قبل أن يخرج من المنزل، وعلى رغم رفع الكلفة، الا انه لا يزال يناديها «آنسة رندا»! نختم بالغلاف الذي لم يسلم من الخطأ الفادح أيضاً من قبل الناشر المسرور بطبعته الثانية، اذ ورد في ظهر الرواية «الجزار عبدالعظيم عتمان المتهم بقتل حمزة» فأقول: «حمزة مين والناس نيمين»، عبدالعظيم عتمان متهم بقتل محفوظ بن جرجس غطاس، محفوظ بن إسطاسية، وليس حمزة البراوي! وأملي أن يتم تعديل هذا الخطأ قبل التبجح بطبعة ثالثة! وهنا أقول يا خيري شلبي، على رغم تاريخك العظيم في الكتابة، وعلى رغم النتاج الذي تجاوز أكثر من 70 كتاباً، وعلى رغم الترجمات العالمية، وإدراج روايتك في قائمة البوكر الطويلة لهذا العام، إلا أنني أقول لك: «آسف لقد استنفدت حصتك من الوقت»! * قاص سعودي.