هل تكفي الرواية كاتبها بوصفها مجالاً للتعبير وتأمل العالم ومحاولة لفهم الوجود؟ أم أنها شكل من أشكال السرد وتعبير عن شهوة الحكي ورغبة في تبديد عبث الوجود في هذا العالم فقط؟ لا تبدو الرواية كافية كوسط من أوساط التعبير بالنسبة الى عدد كبير من كبار كتاب العالم، ولهذا فقد خالطوها بأشكال أخرى من الكتابة. بعضهم كتب القصة القصيرة كإرنست همنغواي، وسومرست موم، ومن العرب يوسف إدريس ونجيب محفوظ وغسان كنفاني. وبعضهم كتب المسرح، إلى جانب رواياته، في محاولة لرؤية العالم معروضاً في شكل ديالوغ على الخشبة. والبعض الآخر كتب الرواية والمسرح والشعر والسيرة الذاتية، مثل الأديب الألماني الشهير يوهان وولفغانغ غوته، والألماني الحاصل على نوبل للآداب عام 1999 غونتر غراس، والكاتب المصري توفيق الحكيم، والكاتب الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا. هذا يؤكد مبدأ عدم الكفاية ويجعل من الشكل الروائي، الذي أزاح من طريقه عدداً من الأشكال التي كانت سائدة في المجال الثقافي من قبل، كالقصة القصيرة والمسرح، مجرد شكل ضمن قوس واسع من الأشكال التعبيرية. لكن اللافت أن كتاب السرد، ومن بينهم كتاب الرواية، يشعرون أحياناً كثيرة أنهم بحاجة للتعبير عن أفكارهم ورؤيتهم للعالم في أشكال غير سردية؛ من خلال المقالة والدراسة والبحث الأدبي، في إشارة إلى الطاقة التعبيرية غير المحدودة التي تتوافر في هذه الأشكال ولا نعثر عليها في الأشكال السردية. ويوفر الروائي التشيكي ميلان كونديرا مثالاً على الروائي الذي يجد في داخله الرغبة في تأمل تاريخ الكتابة الروائية عبر العصور، لربما من أجل مقابلة ما يكتبه هو مع ما كتبه غيره من أساتذة الشكل عبر العصور؛ فقد كتب كونديرا ثلاثة كتب في تأمل تاريخ الرواية. الأمر نفسه يفعله الروائي البيروفي ماريو بارغاس يوسا، الحاصل على نوبل للآداب هذا العام، والذي كتب دراسته النقدية الأولى عن تيار الواقعية السحرية في رواية أميركا اللاتينية مركزاً على غابرييل غارسيا ماركيز، كما ألف كتباً في السياسة، وتابع كتابة مقالاته في عدد من الصحف الإسبانية الرئيسة. لكن اللافت في تاريخ الكتابة الروائية في القرن العشرين هو حالة الكاتبة الهندية أرونداتي روي (من مواليد 1961) التي أصدرت عملها الروائي الأول (هل يكون الأخير؟) «إله الأشياء الصغيرة» عام 1997 وفازت بموجبه بجائزة البوكر البريطانية، لكنها لم تنشر رواية أخرى حتى هذه اللحظة. لقد اختارت أرونداتي روي أن تكون ناشطة في العمل السياسي ومناهضة التسلح النووي، وداعية للديموقراطية في العالم، ومناهضة عنيدة لمشاريع السدود الضخمة في الهند بسبب ما تسببه من تشريد ملايين البشر وتدمير الحياة البيئية الطبيعية وإجبار السكان على تغيير المهن التي نشأوا وتربوا عليها طوال عمرهم. وهي تقول في واحد من الحوارات المطولة معها إنها على رغم نجاح روايتها الوحيدة، وتجاوز مبيعاتها أكثر من مليون نسخة، إلا أنها تجد نفسها في ذلك النوع من الكتابة الذي توالت إصداراتها فيه بصورة متتابعة على مدار السنوات الاثنتي عشرة الأخيرة. إن كتبها «نهاية الخيال» (1998)، و «ثمن العيش» (1999)، و «علم جبر العدالة اللانهائية» (2001)، و «سياسات القوة» (2001)، و «حديث الحرب» (2003)، و «دليل القارئ العادي إلى الإمبراطورية» (2004)، و «الإنصات إلى الجنادب: ملاحظات ميدانية عن الديموقراطية» (2009)، هي من ذلك النوع من الكتابة التي تتخذ شكل المانيفستو أو البيان، أو الكتابة السجالية التي تدافع بحرارة وقدر عال من الالتزام عن القضايا العامة. إنها لا تختبئ خلف شخصياتها لتعبر بصورة مواربة، غامضة، ملتبسة، عن رؤيتها للعالم، بل تقول رأيها بصراحة، وكأنها تهتف في مظاهرة. أفلا تمثل حالة أرونداتي روي كشفاً عن عدم كفاية السرد، عن كونه نغماً في غابة من النغمات، آلة موسيقية بين عدد كبير من الآلات الموسيقية في أوركسترا التعبير عن هذا العالم؟