عندما حررت القوات العراقية بالاشتراك مع ميليشيا الحشد الشعبي بلدة تلكيف الكلدانية- الآشورية شمال مدينة الموصل، تداول الناشطون رد صاحب أحد متاجر المنطقة على إعلامي سأله عما تغير من أحوالهم بعد التحرير، إذ قال باستهزاء مرير: «يآبا شلنّا صورة البغدادي، وحطينا صورة السيستاني». تلك العبارة، ببساطتها، ذات دلالة على ما يعيشه المسيحيون العراقيون راهناً. فهُم خارج أي فعلٍ سياسي أو عسكري أو اقتصادي في البِلاد، حتى في المنطقة التي كانت تُعتبر مهداً تقليدياً للمسيحيين العراقيين، سهل نينوى. فسلسلة القُرى والبلدات شمال مدينة الموصل وشرقها كانت تُعتبر امتداداً تاريخياً للحواضر والممالك الآشورية المسيحية القديمة. وعلى رُغم أنها دمرت مرات عديدة، أثناء الغزوات المغولية والفارسية والتمرد على السلطنة العُثمانية، إلا أن أهلها استطاعوا إعادة بنائها، والحِفاظ على طابعها الثقافي واللغوي والديني المُتمايز عن المُحيط. سهل نينوى الذي يتكون من أقضية الحمدانية وتلكيف وشيخان شمال مدينة الموصل، ويضمُ بلدات بغديدة وتلكيف وألقوش وبرطلة وبعشيقة وتلسقف، وبينها مئات القُرى، كان يعيش فيها قُرابة ربع مليون مسيحي عراقي، آشوري وكلداني وسرياني؛ إلى جانب ما يُعادلهم تقريباً من الكُرد والايزيدين والشبك والعرب؛ لكنها صارت شبه خالية من المسيحيين بعدما احتلها «داعش» في صيف عام 2014. فقد نزح كُل سُكانها نحو إقليم كُردستان العراق، ومنه غادر قُرابة نصفهم إلى خارج العراق، ولم يعد إليها بعد تحريرها إلا أقل من ألف عائلة، وفق آلان كوركيس، القيادي في المجلس الشعبي الكلداني الآشوري السرياني. * * * لم تعش تلك المنطقة استقراراً أمنياً مُنذ أوائل العهد البعثي نهاية الستينات من القرن المنصرم. فالحركة القومية الآشورية- الكلدانية العراقية استشعرت سياسات الصهر القومي مُبكراً، وبُعيد تأسيس الحزب السياسي الأول «الحركة الديموقراطية الكلدانية الآشورية زوعا» نهاية السبعينات، وإعدام صدام حُسين قادتها يوسف توما ويوبرت بنيامن ويوخنا ججو، انخرطت الحركة في الكفاح المُسلح إلى جانب الحركة القومية الكُردية والحزب الشيوعي العراقي، والأحزاب الشيعية في مرحلة لاحقة. طوال هذه المرحلة لم تستحصل الحركة الكلدانية- الآشورية على مكاسب سياسية واضحة، خلا سماح النِظام العراقي السابق بتدريس اللغات المحلية على نِطاق ضيق في تلك المنطقة. حتى حينما حصل إقليم كُردستان على استقلاله الفعلي عن السُلطة المركزية عام 1991، فإن الكلدان- الآشوريين لم يأخذوا إلا كشُركاء نسبيين، وتحطم العديد من قراهم وقصباتهم في فترات الصراع الداخلي الكُردي - الكردي، وتوقفت مسيرة الحياة السياسية. لم يُعد الكُرد المنطق الصدامي «المسيحي الجيد هو المسيحي الذمي البعثي، الذي يجب أن يُغير حتى اسمه، كطارق عزيز»، بل حافظوا على منطق اعتبار الحقوق الكلدانية الآشورية بمثابة «عطايا»، خصوصاً بعد مرحلة الحرب الداخلية. فالمطلب الأكثر إلحاحاً، الحصول على منطقة حُكمٍ ذاتي، لم يتحقق بأي شكل. * * * بعد سقوط النِظام لم تتغير أحوال المسيحيين في سهل نينوى، وصار السكان المحليون يشكون من ثلاثة ديناميكيات سياسية وأمنية واقتصادية ضاغطة عليهم، دفعت بعشرات الآلاف للهجرة، إما نحو إقليم كُردستان أو إلى دولٍ أخرى. فقد كانوا يشكون من دعم حكومي واضح لجماعة الشبك، الشيعية بغالبيتها. فالذين كانوا يستقوون بالنِظام البعثي، باتوا يستندون إلى دعمٍ واضحٍ من الأحزاب السياسية الشيعية، والميليشيات الرديفة لها. يتذكر السُكان المسيحيون الضغوط التي كانت تُمارس ضدهم خلال تلك السنوات، من خلال التمدد الديموغرافي والاقتصادي وحتى الأمني. كما أن القوى المسيحية ما زالت تصر على أن المناطق المسيحية كانت الأقل حصولاً على الموازنات المالية المُرسلة من الحكومة المركزية. فالمسيحيون كانوا الوحيدين الذين ليست لهم قوة تمثيل سياسية وسيطرة أمنية، بعكس الكُرد والعرب السُنة والشبك، وحتى الايزيديين الذين كانوا محسوبين على الحزب الديموقراطي الكُردستاني في مجلس المُحافظة والمجالس المحلية. على أن كُل ذلك لم يكن يُقارن بالقلق الأمني الرهيب الذي وقعت فيه منطقة سهل نينوى طوال السنوات التي فصلت انهيار النظام السابق واحتلال «داعش» منطقة السهل. فالقوى الأمنية التي كانت تتصرف بعقلية طائفية وحزبية، قابلها تطرف التنظيمات المُسلحة السُنية التي سيطرت على أنحاء واسعة من مُحافظة الموصل فعلياً حتى قبل انبعاث «داعش». يذكر رجل دينٍ مسيحي أن العشرات من التُجار والميسورين المسيحيين كانوا يدفعون أتوات للعصابات المُسلحة، وأنها فعلياً كانت غطاء لما فُرض على مسيحيي السهل من جزية في ما بعد. تشكلت الحراسات في مناطق السهل بإجماع كُل الكنائس، لكنها لم تستطع أن تحمي منطقة السهل إلا بشكلٍ نسبي جداً. وما لبثت أن انهارت في الساعات الأولى لهجوم «داعش». ومع انهيارها هرب عشرات الآلاف من المسيحيين من مناطقهم، التي صارت فارغة تماماً. * * * وفق اتفاق سياسي أمني بين إقليم كُردستان والحكومة المركزية، وبرعاية من التحالف الدولي، تم تقسيم السهل إلى منطقتين، شمالية من المفترض أن تُسيطر عليها قوات البيشمركة، وجنوبية ستكون تحت سيطرة القوات النِظامية العراقية وميليشيا الحشد الشعبي، وهو ما تم فعلياً أثناء عملية تحريرها من احتلال «داعش». راهناً، تعيش مناطق سهل نينوى، شبه المُفرغة، على وقع ذلك الانقسام، والذي بدوره يدفع بثلاثة صدوع عراقية لأن تلتهب في السهل ومُحيطه. فالصراع العربي - الكُردي على تابعية السهل أكثر الصراعات التي قد يدفع المسيحيون أثمانها. خصوصاً أن ثمة ما يوازيها من انقسام مسيحي: فالحركة الديموقراطية الكلدانية الآشورية «زوعا» موقفها مائل للسلبية من الاستفتاء الكُردي، وتملك علاقات وطيدة مع الأحزاب الشيعية العراقية. يقابلها المجلس الشعبي الكلداني الآشوري، الذي يوافق الكُرد في مشروعهم السياسي ويسعى جاهداً لأن يستحصل على منطقة حُكمٍ ذاتي للكلدان الآشوريين. لكن السهل الذي تسعى حركة «زوعا» لأن تحوله مُحافظة مسيحية/ كلدانية آشورية خاصة ضمن العراق، بات خالياً تماماً من المسيحيين، كما أن المُهاجرين الذين يُريد المجلس الشعبي أن يُعيدهم إلى مناطقهم الأصلية، يُستنزفون بالتقادم، إلى أوروبا ودول الجوار. من جهة أخرى، فإن سهل نينوى مُهدد بعودة القلاقل الأمنية إليه، فقطاعات واسعة من الشبك والتُركمان الشيعة عادوا ليستقووا بالحشد الشعبي، فيما ستُعيد التنظيمات المُتطرفة إعادة بناء نفسها. ولا تستطيع القوات الوحيدة المُشكلة من مسيحيي السهل – الفوج الثالث التابع لقوات زيرفاني الكُردية المُقدر بحوالى 2500 مُقاتل- إلا أن تُشكل حماية نسبية للمسيحيين الباقين. وهذه القوات لا تستطيع أن تدخل إلا البلدات الشمالية من السهل، فيما المنطقة الجنوبية التي كان يعيش بها أكثر من ثلثي المسيحيين تسيطر عليها ميليشيا الحشد الشعبي. أخيراً، فإن سهل نينوى يعيش صراع فقدان الأمل التام. فالمسيحيون المهجرون من بغداد والمُدن الجنوبية مُنذ العام 2003 لم يعودوا قط إلى مناطقهم، وفي الكثير من المناطق استولت العصابات على منازلهم ومُمتلكاتهم، ولم تستطع قوات الأمن استعادتها. جرى الأمر نفسه بالنسبة الى الذين هُجروا من مدينة الموصل، فالعشرات منهم ما زالوا يروون حكايات غدر أقرب الناس من أهل المدينة ومُحيطها بهم، وبعد التحرير اشتروا أملاك المسيحيين بأرخص الأثمان. لا اتفاق سياسياً بين القوى السياسية العراقية الكُبرى حول مستقبل الموصل، وبالذات المناطق المُتنازع عليها ومنها سهل نينوى، في المرحلة المقبلة. ولا رؤية مُتفقاً عليها بين الدول القائدة للتحالف الدولي لمستقبل العراق والعملية السياسية فيه. فوق ذلك، ثمة تمزق بين التيارات السياسية المسيحية بين الأطراف السياسية المُستقطبة والعسكرية المُتصارعة. قبل أيام قليلة نُظمت وقفة تضامنية في حيّ عين كاوا في مدينة أربيل، لمُناسبة ذكرى «مذابح السيفو» التي طالت المسيحيين الكلدان الآشوريين بداية الحرب العالمية الأولى. ضمت التظاهرة فقط بضع عشرات من الناشطين السياسيين والمدنيين الذين رددوا عبارات عن التعايش والمحبة، بأصواتٍ خفيضة وعيون مكسورة، مع الكثير من استبطان الخُذلان وسوء الثقة بالنفس.