منذ تخرجه في معهد السينما 1967، كانت تحدو داود عبد السيد الرغبة بأن يكون إضافة متميزة في عالم السينما، عازماً أن يكون رقماً صعباً في عالم الإخراج السينمائي وليس اسماً عابراً، واتخذ قراره بالبحث عن مهنة أخرى والسفر إلى الخارج في حال لم يقدم أعمالاً ذات قيمة، فالسينما لم تكن بالنسبة إليه مجرد مهنة بل كان كالناسك في محرابها. وجنح عبد السيد المولود في القاهرة عام 1946، إلى التحرر من أغلال الثوابت حين بدأ حياته ك «مخرج مساعد» في أفلام عدة مهمة بينها، «الأرض» ليوسف شاهين، «الرجل الذي فقد ظله» لكمال الشيخ. لكنه تمرد على تلك المهنة لكونها تجعله مجرد تنفيذي لمهام معلومة، من دون أن يقدم عبرها العمل الخلاق للمخرج. كان هو يريد التعرف إلى مقدراته واختبارها، وكانت الأفلام التسجيلية هي سبيله لذلك، في ظل صعوبة صناعة فيلم طويل بينما تخرج لتوه. خمسون عاماً في رحاب السينما يقابلها إخراج 9 أفلام فقط، رقم ضئيل للغاية مقارنة بأقرانه من الجيل ذاته، لكن كل عمل شكّل بصمة وعلامة راسخة في السينما المصرية، ليؤكد أن الكيف قد ينتصر على الكم، حين تتوافر الرؤية والإبداع لدى صانع العمل. اختيرت ثلاثة من تلك الأفلام ضمن قائمة أهم 100 فيلم عربي التي أصدرها مهرجان دبي السينمائي الدولي عام 2013، وهي («الكيت كات»، «أرض الخوف»، و «رسائل البحر»). يميل داود عبدالسيد إلى ألا يطرح رسالة مباشرة بقدر الإمكان، هو الذي لم يكن يجيد استخدام مهاراته فقط، بل بدا أيضاً صاحب رؤية فلسفية، لم يصطنعها أو يتعمدها بيد أنها اتضحت تلقائياً عبر أفلامه القليلة، عزز تلك النظرة الفلسفية حرصه على كتابة ما يخرجه، متبنياً مفهوم «سينما المؤلف»، حيث يبث أفكاره ورؤيته ومفاهيمه المختلفة، فيبدو العمل بكل تفاصيله كما لو كان ابنه الأثير، لا يقبل المساس به تحت أي ظرف كي لا يفسده حتى لو كلفه ذلك الانتظار لسنوات كي يخرج إلى النور. تمرد على السينما الكلاسيكية التقليدية بأفكارها وشخوصها المعتادة، متحرراً من النمطية، سابحاً في ملكوته السينمائي الخاص، حتى أبطاله تسربت إليهم تلك الروح فظهروا كالسابحين في ملكوت خاص صنعه عبد السيد. جاء أول أفلامه «الصعاليك» في عام 1985، تلاه رائعة روائع في السينما المصرية والعربية «الكيت كات» عام 1991، و «البحث عن سيد مرزوق»، وهو الفيلم الذي لم يصادفه النجاح إذ بدا غامضاً غير مفهوم للجمهور، لكن عبد السيد الذي يراه أحد أفلامه المهمة لم يحمّل الجمهور مسؤولية الفشل بل أعلن مسؤوليته عن الإخفاق، فهو لم يتعال يوماً على جمهوره. «الحياة» التقته وأجرت معه حواراً حول مسيرة تعاظمت سنواتها وإنتاجها. أليس إخراج 9 أفلام فقط خلال 50 عاماً من العمل السينمائي عدداً ضئيلاً؟ - ثمة عوامل عدة أدت إلى ذلك، بينها أنني أكتب سيناريو أفلامي ما يستغرقني وقتاً طويلاً، لذا فالجهد المبذول مضاعف، يشمل الإخراج والسيناريو، وإن كنت أرى أن السيناريو هو الأصعب. وهناك سبب آخر يتلخص في مدى إمكانية تقبل السوق السينمائية لأعمالي، على الأقل في مرحلة سادت خلالها السينما التجارية، ما عطل إمكانية تحقيق وصناعة فيلم. لا أقدم تنازلات هل تقصد تدخلات المنتج؟ - ليست المنتج فقط، لكن في شكل عام، هناك أسباب كثيرة، وحين الإقدام على صنع عمل ما أحرص على ألا أقدم تنازلات كثيرة. أعتبر نفسي مرناً لكن من دون المساس بالعمل كي لا يفسد. تبنيت سينما المؤلف خلال أعمالك القليلة، لماذا تفضل كتابة أفلامك؟ - رغبة مني في التميز. فأحياناً يتجه المنتجون إلى السير في طريق ممهد بعيداً عن خوض تجربة جديدة أو مختلفة، وينطبق الأمر على كاتب السيناريو، وحين أمتلك رؤية وتصوراً معيناً للسينما، يقتضي الأمر أن أصيغهما بنفسي. هناك فيلم وحيد بين أعمالك هو «أرض الأحلام» لم تكتبه؟ لماذا؟ - كان هناك اتفاق أن يكتبه شخص آخر، ووافقت لأنني كنت شديد السعادة لإخراج فيلم تقوم ببطولته فاتن حمامة، فالعمل معها شيء كبير ومهم، والموضوعات التي أكتبها لم تحظ بإعجابها نظراً لكونها سيدة محافظة للغاية اعتادت نوعاً مختلفاً محافظاً أخلاقياً من السينما إلى حد ما. صرحت من قبل أنه يحتمل أنك وقعت في خطأ ما خلال إخراجك فيلم «البحث عن سيد مرزوق»؟ - بالفعل، لأنني أؤمن بضرورة أن تصل السينما للجمهور، ومن غير المقبول صناعة فيلم تكون نتيجته مقاعد خاوية. ومن ثم في حالة فشل الفيلم تجارياً، فلا بد أن صانعه قد ارتكب خطأً ما. لكن يبقى الفيلم من وجهة نظري عملاً مهماً بين أعمالي، ولست نادماً على صناعته. لكن كان ينبغي صناعته بطريقة أخرى تجعله أكثر جاذبية، لا سيما أنني أؤمن أنه لا يمكن عمل فيلم للنخبة المثقفة بل لاستهداف الجمهور العريض. هل هناك خلطة ما للأفلام الجماهيرية؟ - ما يعجب المشاهد ويستمتع به هو عمل جماهيري، أما التجاري فتحمل سماته الكلاشيهات المعتادة، والعلاقات والأحداث التقليدية، ويجنح صانعوه إلى منافقة أفكار الجمهور وتأكيد رؤيته من دون محاولة لتغييرها، بينما يفترض أن مهمة الفنان هي تغيير رؤية المشاهد والإضافة إليها، وتقديم عمل ممتع وهو ما لا تفعله السينما التجارية التي تحجم عن تقديم ما يرفضه الناس وإن كان صحيحاً. فيظل الفيلم التجاري غير قادر على مناطحة آراء الجمهور أو مخالفتها، بل يتملقها وينافقها كي يصل إليها بسهولة. فيما يفترض التجديد وتقديم كل ما هو إبداعي ومختلف عبر الفن. على رغم النجاح الكبير للفيلم السابق عليه، فإن «الكيت كات» استغرق إنجازه سنوات؟ - نظراً لإحجام المنتجين عن دعمه، فبعضهم يراه فيلماً كئيباً، فيما رأى آخرون أن إنشاء ديكور يشابه منطقة «الكيت كات» يتطلب تكاليف باهظة، لا سيما أن الأحداث التي تدور في حي شعبي في إمبابة، ورأى بعض المنتجين التصوير في أماكن وحارات غير ملائمة، ولم أكن لأضحي بالعمل الذي أردت تنفيذه على النحو الصحيح. وقام مهندس الديكور أنسي أبو سيف بتنفيذ ديكور عظيم لا يمكن تفرقته عن الحقيقي، حيث تطلبت بعض المشاهد الخروج من الديكور إلى شارع حقيقي. كيف وصلت للتفاصيل النفسية والشكلية ل «الشيخ حسني» الكفيف؟ هي شخصية روائية، وكتب جزءاً كبيراً من تفاصيلها إبراهيم أصلان في روايته «مالك الحزين»، كما أن إتقان الفنان محمود عبدالعزيز للدور وقيامه بجهد فائق أسهم في خروجه بهذا الشكل الناجح، فهو جهد المؤلف والممثل، ولا بد من أن أرجع الفضل لأصحابه. كمخرج وضعت فقط مفهوماً للشخصية ودوافعها. خلال الفيلم، جعلت من الشيخ حسني الشخصية الرئيسة وصانعة الألعاب، على رغم ثانويته في الرواية. واستعنت بوصف أصلان الملامح الشكلية في قصته، إضافة إلى وصف بعض التصرفات والأحداث، لكني بالطبع أضفت أحداثاً وشخصيات لم تكن موجودة، بينها شخصية نجله يوسف، لكنني انطلقت من شخصية روائية موصوفة حدد معالمها كاتب بارع. تحولات مصر الشائع أنك تفضل التصوير في الاستديو؟ - ليس الأمر تفضيلاً، لكن ثمة مشاهد لا يمكن تصويرها داخل الاستديو لأنها تحتاج تكاليف ضخمة لبنائها، ويفترض تصميم الاستديو لحساب الفيلم كي يحقق الديكور كل متطلباته، وهناك أمور فنية وتقنية تتعلق بالمساحة والزوايا المختلفة تكون متاحة في الديكور لأنه يعطي حرية وإتقاناً أكبر أفضل من الأماكن الطبيعية. لماذا اهتممت برصد التحولات الاقتصادية والاجتماعية للمصريين؟ - غالباً يتحدث كل فيلم عن رؤية ما، فمثلاً طرحت عبر فيلم «الكيت كات» فكرة «العجز»، متمثلاً في عجز الشيخ حسني عن الرؤية، ومحاولة تجاوزه عبر التصرف كالمبصرين، بينما كان ابنه الشاب يوسف «عاجزاً جنسياً» في البداية، وهناك سليمان الصايغ الذي تهجره زوجته بينما هو عاجز عن التفاعل معها أو مجرد إجراء اتصال به. وهناك عجز بائع الحشيش هرم أمام قوة الدولة المطلقة متمثلة في الشرطة. شعرت في تلك الفترة أن المجتمع المصري عاجز، وما زال كذلك، فهو عاجز عن فرض متطلباته، واللحاق بركب التقدم وإقامة نهضة بفعل كثير من القيود المكبلة، كما أنه عاجز عن مجابهة سطوة الدولة وقمعها، باختصار نحن مجتمع عاجز، وينبغي الاعتراف بذلك، وجاء رفض العجز خلال ثورة 25 كانون الثاني (يناير) 2011. فهناك مشهد يجمع الشيخ حسني مع ابنه يوسف حين يقول له في نهاية الفيلم: لماذا لا تريد يا أبي الاعتراف إنك أعمى، فأجابه قائلاً: «أنا أرى أفضل منك في النور والظلام أيضاً»، فرفضه الاعتراف أنه عاجز يمثل نوعاً من الإنكار، بالضبط، مثل واقعنا المصري حيث نتفاخر أننا نمتلك حضارة 7 آلاف عام بينما نعاني التخلف في كل مناحي الحياة. وخلال الفيلم، الوحيد الذي تجاوز عجزه خلال الأحداث هو الشاب يوسف. كان يفترض أن يكون أحمد زكي بطلاً ل «رسائل البحر»، ولم يمهله القدر، هل كان اختيار آسر ياسين بفعل التشابه الشكلي مع زكي؟ - لم يكن آسر ياسين بديلاً شبيهاً لأحمد زكي، لأنني لم أكتب الفيلم لأحمد زكي، بل بحثت عن الممثل الذي يصلح لتحقيق الشخصية، وبالفعل توقف الفيلم لمدة استمرت 8 سنوات لأسباب عدة بينها مرضه وعرضت شركة الإنتاج مجموعة من الممثلين بينهم نجوم كبار تضاهي مكانتهم أحمد زكي لكنني لم أجد بينهم من يصلح لأداء هذا الدور، وهنا نعود لمربط الفرس وهو أنني لا أوافق على شروط من شأنها أن تفسد العمل السينمائي. أنا أكتب السيناريو أولاً، ومن ثم أبحث عن الممثل الذي يمكنه أداء الدور، فالشخصية السينمائية تولد أولاً، فتفصيل الدور من أجل ممثل بعينه يعد أحد صيغ السينما التجارية. الدولة... هذا الوريث الجاهل! ما أعمالك السينمائية المقبلة؟ - لا يوجد عمل محدد، هناك أفكار أحاول العمل عليها لكن الأوضاع الحالية للسينما غير جيدة بشكل عام لا سيما على مستوى الإنتاج، لذا أتمهل في الاختيار ولست متعجلاً في هذا الصدد. غالبية المشكلة إنتاجية، وتواجهني صعوبات جمة عند صناعة أي عمل. أترى قصوراً من الدولة تجاه إنتاج الأعمال السينمائية؟ - تبدو الدولة مثل الوريث الجاهل الذي يحوز إرثاً من الثروة لكنه يبدده، فالسينما المصرية ليست ذات شأن هين بل لدينا صناعة سينمائية راسخة وقوية، وهناك فارق بين إنتاج الأفلام وصناعتها. فالصناعة تعني امتلاك أدواتها وبينها الاستديوات والبلاتوهات وكاميرات وفنيون وسوق تنتج وتوزع ، ومصر لديها تاريخ تليد في هذا الشأن. وللأسف جرى تبديد هذا الميراث عبر الإهمال والجهل مما يشكل كارثة، لا سيما أن الدولة المصرية غير قادرة على إدراك أهمية السينما بالنسبة لها كدولة وكشعب، بما تشكله من حجر زاوية ك «قوة ناعمة». أترى أن أحد أسباب الردة الثقافية مرجعه إهمال السينما والفن؟ - تواجه صناعة السينما صعوبات جمة بينها بيع تراث السينما المصرية، بفعل إقدام شركات خاصة ضخمة على شراء تلك الأعمال بمبالغ طائلة من مالكيها في حين يشتريها التلفزيون المصري بمبالغ زهيدة، إضافة إلى عملية القرصنة. ويتطلب الأمر دعماً على رغم أن الإنتاج المدعوم من مؤسسات ما في الدولة يبدو دعائياً. ومن المؤسف لدينا جهل مركب وإهمال فظيع، وكان من نتائجه لجوء شباب المخرجين إلى جهات مختلفة للحصول على دعم لإنتاج أفلامهم في إطار تصورات تضعها جهات الدعم من دون أن تضع الجمهور في حسبانها. ويتوجب على الدولة دعم الأفلام ذات المستوى الجيد والقادر على المنافسة، وأعلنت الدولة عن ملايين الجنيهات التي خصصتها للسينما لكن متى وكيف ستنفذ لا أعلم. ألم تفكر في إخراج المسلسلات؟ - عُرض عليّ إخراج المسلسلات لكني رفضت، وأرى أن الفن يكمن في مشاهدة عمل عبر جرعة واحدة وليس على مدار شهور، والسينما هي الأطول عمراً في رأيي. هل يستهويك نمط محدد من الأفلام؟ - تستهويني مرحلة أفلام الواقعية الإيطالية بامتدادها، والمشكلة أن هذا النوع من السينما لم يعد يصنع حتى في الخارج، لكن شاهدت منذ فترة قريبة في مهرجان شرم الشيخ للأفلام الأوروبية الفيلم التشيخي «قطارات تحت الحراسة المشددة» للمخرج يوري مينزل، ووجدته عملاً جميلاً وبسيطاً، وتتسم تلك النوعية بكونها ممتعة ومؤثرة، وحين مشاهدتها توشمك تاركة أثرها الذي لا ينسى.