بعد ما يقرب من خمسة وأربعين عاماً على رحيل الأب ينصفه الابن، فيسطر بعضاً من تاريخ حياته ودوره في تأسيس السينما اللبنانية، يكشف ابراهيم العريس عن جوانب في شخصية والده الذي قادته مغامراته السينمائية الطموحة إلى استنزاف أمواله إلى حد الإفلاس. بعد نحو نصف قرن يحكي الابن عن مأساة والده، عن اعتداده بنفسه وفنه، عن شغفه وآماله وأحلامه السينمائية التي صرعته أو ربما هو الذي قتلها. ذلك في أحدث الكتب السينمائية العربية «الصورة الملتبسة – السينما في لبنان: مبدعوها وأفلامها» للناقد إبراهيم العريس، والصادر عن دار النهضة العربية، بالتعاون مع وزارة الثقافة اللبنانية والذي نُشر ضمن فعاليات بيروت عاصمة عالمية للكتاب. يقسم المؤلف تاريخ السينما اللبنانية إلى سبع مراحل، كما يقسم كتابه الموسوعي، البالغ عدد صفحاته 399 صفحة، إلى سبعة فصول أساسية هي: جيل الرواد - سينما الهوية الصافية - استوديوات مصر في ربوع لبنان - جيل المساعدين وسنوات الزمن الانتقالي - سينما تولد من رحم الحرب - الزمن القلق وجيل الورثة - دخول شرعي إلى زمن العالم، بالإضافة إلى فيلموغرافيا لمئة فيلم صنعت السينما اللبنانية. يرصد الكتاب ويناقش تعرجات وانحناءات وتقلبات السينما في لبنان، ذلك البلد الذي كان في مراحل كثيرة عبر تاريخه ملجأ ومأوى لكثيرين من الفنانين العرب. كانوا يهرعون إليه لتحقيق أعمالهم أو هرباً من حصار خانق في بلادهم. إلى جانب أن لبنان كان ولايزال نقطة انطلاق لكثير من الفنانين اللبنانيين الذين يطوفون العالم بأعمالهم، وكان مارون بغدادي من أوائل المخرجين العرب الذين نالوا جائزة في مهرجان «كان». وعلى رغم ما سبق لم ينجح لبنان في إقامة صناعة سينمائية مستمرة متواصلة الإنتاج، فعلى مدار نحو ثمانية عقود شهدت السينما اللبنانية العديد من التطورات والمتغيرات، قطعت رحلة طويلة لكن المحطات كانت قليلة. من هذا المنطلق يتصدى إبراهيم العريس لتحليل الأسباب التي حالت دون أن تكون للبنان صناعة سينمائية متواصلة الإنتاج، على رغم أنها في إحدى مراحلها سجلت أمراً لافتاً بل ومثيراً للدهشة على تناقضه، فالحرب التي اندلعت في عام 1975 وانتهت بعدها بسبعة عشر عاماً عجلت وحسنت من وتيرة الإنتاج السينمائي في لبنان في بعض مراحله على الأقل. وهذا ما جعل في رأي العريس، الابن، من المرحلة السادسة من تاريخ السينما اللبنانية أغنى مراحلها وأكثرها أهمية، بل إنه يعتبرها المرحلة الوحيدة التي يمكن أن ترصد فيها ظاهرة وجود سينمائي حقيقي في لبنان إذ يقول: «ولدت السينما من رمادها» (أي الحرب). ناقد مشاكس يتميز العريس بقدرته ليس فقط على طرح الأسئلة المشاكسة التي يُمكن أن تقوم من حولها دراسات عدة، من دون أن يقدم هو إجابات قاطعة، لكنه يتميز أيضاً بقدرته على التقاط فكرة أو لحظة ثم يبني عليها مجموعة من الأفكار والفرضيات تنطلق عادة من واقع مرصود ليُعيد تفسيره بشكل مغاير لحد الإدهاش. وهو ما ينطبق على كتابه «الصورة الملتبسة» ففيه يحاول العريس أيضاً العثور على إجابات لتساؤلات تتعلق بجذور السينما اللبنانية وهويتها، وجمهورها، وما يقف وراء اختيار مخرجيها، واللهجة التي تنطق بها، ومدى ما فيها من انعكاس لبعض ملامح الواقع الإجتماعي في لبنان. وبهدوء وبراعة يرسم خلفية لتاريخ السينما اللبنانية محاولاً استنتاج ملاحظات كاشفة حول ما يمكن لهذه السينما أن تقوله للمؤرخ إن هو حاول استنباط مدلولاتها الواعية المنهج. طوال الكتاب يتخذ الناقد والباحث السينمائي من التفسير والتحليل قاعدة لعمله، ليصل بنا في نهاية المطاف، بتحليله السوسيولوجي، إلى نتيجة مؤداها أن السينما في لبنان كانت ولاتزال ذات علاقة مباشرة بتاريخ لبنان كله، أنها تُجسد بعض سمات المجتمع اللبناني وانقساماته وتحولاته، ويُؤكد العريس أن الفن السينمائي قادر على قول كلمة في هذا التاريخ الأشمل. اللافت في الكتاب أيضاً تلك الروح الجماعية والمساندة المتبادلة بين جيلين أو أكثر من النقاد الشباب تعاونوا مع إبراهيم العريس، ووفروا له ما لديهم من مواد متعلقة بموضوع كتابه فقدم لهم شكره وامتنانه في مستهل الكتاب. حميمية مصدر أساسي من متعة القراءة في هذا المرجع الموسوعي ينبع من الجزء الحميمي الذي يحكي فيه المؤلف عن والده، كأحد الذين خصوا السينما اللبنانية بحياتهم مغامرين متحملين شظف العيش أحياناً ووطأة الديون أحياناً أخرى من أجل أحلام وربما أوهام كبرى. تلك الحميمية نابعة من التكوين الشخصي والثقافي لمؤلف الكتاب، من تجربته الحياتية والفنية والفكرية التي تتسم بالزخم والكثافة، فهو من دون شك أحد أهم وأبرز نقاد السينما في الوطن العربي. درس الإخراج في روما، والسيناريو والنقد في لندن، وترجم من الإنكليزية والفرنسية والإيطالية العديد من الكتب، إلى جانب ما كتبه في السينما وتاريخ الفلسفة والاقتصاد والنقد والتاريخ إذ يبلغ إنجازه النقدي نحو أربعين كتاباً. وُلد ونشأ في ظل عالم يضج بفنون المسرح والسينما، في أسرة فنية بدرجة كبيرة فإلى جانب اشتغال والده وزوجة والده الأولى ناديا بالفن، كذلك كانت أمه مارغريت شمعون التي كانت الزوجة الثانية لأبيه، على رغم أنها لم تكن أبداً نجمة في حياة أو فن والده علي العريس، مكتفية بلعب أدوار ثانوية قبل تقاعدها النهائي. أما زوجة أبيه الثالثة آمال العريس التي لعبت دوراً أساسياً في فيلم «كوكب أميرة الصحراء»، فكانت في سنوات الستينات والسبعينات من نجوم المسلسلات البدوية المنتجة في لبنان. منذ طفولته المبكرة رافق إبراهيم والده المخرج الطليعي علي العريس فكان شاهداً على كثير من آماله وأحلامه وبعض خيباته. عايش أحداثاً تركت آثارها القوية على الحركة المسرحية والسينمائية في القرن العشرين. كما أن إبراهيم العريس نفسه مارس في حياته المبكرة العمل مساعد مخرج ومصمم ديكور، وخاض تجربة كتابة السيناريو مع والده عندما عمل معه على إعادة كتابة سيناريو فيلمه «كوكب أميرة الصحراء» في الخمسينات، إلى جانب مشاركته في كتابة بعض السيناريوات مع شيخ كتاب السيناريو المصري الراحل عبد الحي أديب، على الأخص تلك الأعمال التي تم تصويرها في تركيا. وكم من المرات طُلب من إبراهيم العريس أن يكتب سيرته الذاتية لكنه ظل يرفض لأسباب متباينة. اقترح عليه كُثر كتابة سيناريو روائي طويل مستمد من مذكراته، لكنه لايزال يُؤجل هذا المشروع المهم. ثم ها هو أخيراً يكتب نتفاً مشوقة من تلك السيرة ضمن كتابه عن الصورة الملتبسة للسينما اللبنانية. ريادة يحكي المؤلف عن والده علي العريس (1905- 1965) ليس باعتباره أحد رواد المسرح اللبناني، ولكن كأول لبناني حاول أن يجعل من لبنان بلداً منتجاً لسينما تتجاوز إطار محاولات الهواة، فحقق على مدار أربعة أعوام (1942- 1946 ) أول فيلمين لبنانيين ناطقين وأول فيلمين يُحققهما لبناني. يُخصص العريس لفيلمي والده حيزاً مهماً، إذ كانا أول فيلمين ناطقين بين عامي 1942 و1946. الأول «بياعة الورد» باللهجة المصرية، والثاني «كوكب أميرة الصحراء» باللهجة البدوية. لا يغفل المؤلف توضيح دور والده كرائد أدرك المشكلات التي تعوق قيام سينما لبنانية. كانت نظرته سديدة في ما يتعلق بصعوبة تسويق فيلم باللهجة اللبنانية أمام غلبة سينما مصرية متقنة اعتاد الجمهور العربي لهجتها. كما يلفت الابن النظر الى أن المسلسلات اللبنانية التي انتشرت في العالم العربي باعتماد اللهجة البدوية كان علي العريس سبّاقاً في اختيارها لتسهيل توزيع فيلمه الثاني. مع ذلك أخفق الأب مثل غيره من رواد الأربعينات وصولاً إلى السبعينات، في تحقيق أحلامهم في شأن تطوير الفن السينمائي في لبنان أو التعبير عن هموم إنسانية ووطنية، ربما لأن الحلم كان شيئاً والواقع شيئاً آخر. بدأ علي العريس حياته الفنية كمهندس ومنفذ ديكور في إحدى مسرحيات يوسف وهبي أو جورج أبيض، لا يذكر المؤلف على وجه التحديد، والتي كانت ستقدم في بيروت وكان علي وقتها تجاوز العشرين من عمره بالكاد، لكنه نجح بمعجزة في إنقاذ أصحاب المسرحية من مأزق خطير بعد غرق الديكور في البحر. في ذلك الوقت كان علي العريس يعمل مساعداً لخاله بالرضاعة في تزيين المساجد وبعض الدور بنقوش عربية مستوحاة من النقوش الأندلسية، وعن طريقه جاءته فرصة تصميم وتنفيذ ديكور المسرحية. ثم يزور علي مصر مع زوجته الأولى ناديا شمعون (ناديا العريس) بطلة فيلمه الأول «بياعة الورد» في ما بعد، والتي صارت مغنية استعراضية في عدد من الملاهي والمسارح (مع بديعة مصابني وببا عز الدين). يعمل الزوجان معاً، وفي مصر يُولد شغف العريس بفن السينما هو الذي غنّى ومثّل في عدد من الأفلام وحده أو كثنائي مع ناديا. عندما يعود علي العريس إلى لبنان يقرر خوض تجربة الإنتاج السينمائي فيعمل حثيثاً على تحقيق أحلامه، في حين يعترف الابن أن مغامرتي والده السينمائيتين على رغم ريادتهما قد عادتا عليه بالوبال المادي. مع ذلك سيظل الديكور بالنسبة لهذا الرائد الهدف الذي كان يتوجه إليه كلما ضاقت به الأحوال، وقد ظل يُمارسه حتى سنواته الأخيرة في بعض أفلام السينما اللبنانية في الستينات، إلى جانب مواصلته كتابة ملخصات ومشاريع أفلام سينمائية كان يطمح إلى تنفيذها. كما أقدم في نهاية الأربعينات على إنشاء استوديو للتصوير السينمائي في منطقة الجناح جنوببيروت. * كاتبة مصرية