كتاب الصادق المهدي الجديد «ميزان المصير الوطني في السودان» يأتي في فترة حرجة مع اقتراب الاستفتاء في جنوب السودان، ويعرض زعيم حزب الأمة بالمعلومات والتحليل لهوية جنوب السودان وروافد النزاع في الدولة السودانية الحديثة، مقدماً صورة للتراكمين الخبيث والحميد في مقاربة هذا النزاع عبر اتفاقية السلام تحت مظلة مجموعة دول «ايقاد». ويركز المؤلف على التنظيمات الإسلامية وصعود تياراتها منذ الانتداب المايوي (جعفر نميري) وصولاً الى انقلاب «الانقاذ» الذي أودى بالسودان الى الحال الراهنة عند مفترق الانقسام وربما التفتت كما يرى المتشائمون، ولا يهمل الصادق المهدي الشأن الاقتصادي وترديه كواحد من أسباب الأزمة الراهنة. وجنوب السودان الذي ينتظر موعد الاستفتاء، له مشاكله الداخلية التي يعرضها المؤلف من خلال أصوات جنوبية ودولية، كما يتناول أزمة دارفور التي يسميها «قاصمة الظهر». أما الاستفتاء وما بعده فيحظيان بثلاثة فصول من الكتاب الذي هو في المحصلة شهادة انحياز الى الإنسان السوداني، من خلال وعيها بمشكلات وطن ومحيطه الإقليمي والتدخلات الدولية فيه، فضلاً عن إهمال معظم حكوماته المتعاقبة ما يقتضي حكم بلد غني ومتنوع من جهود ووعي. «الحياة» تنشر فصولاً من كتاب الصادق المهدي في خمس حلقات، وهنا الحلقة الثانية: عزلت «الجبهة الإسلامية القومية» نفسها عن مسيرة السلام في السودان على رغم توقيع الدكتور حسن الترابي معنا على «بيان القصر» في 4/1/1989، وصارت تقول ان القوى السياسية هي التي عزلتها في محادثات القصر، وأكدنا ان ذلك ليس صحيحاً بل ان الجبهة صارت أسيرة الخطاب التعبوي والمضاد للسلام الذي عبأت به قواعدها وقد سارت في ذلك الطريق إلى نهاياته بانقلابها المشؤوم. ويمكن القول إن هذا انقلاب 30/6/1989 كان برشامة للسلام، فالجبهة وضعت السلام كمقابل للإسلام، وبالتالي فإن هذه التجربة المنسوبة زوراً للإسلام هي في الحقيقة مضاد حيوي لسلام السودان في أساسها، ونتائجها المتوقعة هي ما جرى من أقوال وأفعال رفعت مظالم الجنوب للأس السيني الأعظم، وكان الإجماع على تقرير المصير، ثم هذا النفور الماثل الآن وسط الجنوبيين من الوحدة مع الشمال. «المؤتمر الوطني» صاحب هذه التجربة هو امتداد ل «الجبهة الإسلامية في السودان» وهي إحدى تشرنقات حركات النخبة ذات المرجعية الإسلامية في السودان، وقد أطلقوا على أنفسهم اسم «الحركة الإسلامية السودانية» ادعاءً محضاً، ذلك أن الإسلام عريق في السودان سبقهم وعاصرتهم فيه كيانات أكثر جماهيرية وأبلغ صلة بالإسلام من ناحية الإخلاص له ولرفعته. «حركة التحرير الإسلامي» السودانية أولى حركات النخبة الرافعة للشعار الإسلامي تجاوبت مع حركة الإخوان الأم وصارت في مرحلة لاحقة فرعاً منها تستمد منها الأدبيات والشكل التنظيمي. وفي عام 1964 كوّنوا مع آخرين «جبهة الميثاق الإسلامي» التي اتخذت بقيادة أمينها العام د. حسن الترابي شكلاً جبهوياً شعبوياً مخالفاً لنهج الإخوان التقليدي، كذلك استصحبت من الشيوعية نهج تنظيمهم للقطاع الحديث من عمال ومهنيين وطلبة ونساء، ومن حزب الأمة نهج التنظيم للقطاع الاجتماعي التقليدي، وأهمية بناء مؤسسة مالية للكيان السياسي. هذا التجديد ضخ دماً قوياً في الحركة واتسعت شعبيتها لدرجة أنها، وقد كانت نصف عضوية الحزب الشيوعي في البرلمان في انتخابات 1965، صارت نصف عضوية حزب الأمة البرلمانية في انتخابات 1986. وصار واضحاً أن هذه الحركة نجحت في بناء تنظيم ديموقراطي محكم تخلص تماماً من تحفظات بعض الحركات الإسلامية على الديموقراطية. بل قالوا: الديموقراطية هي سنة الأنبياء. هذا التوجه الراشد ساعدتهم عليه ثلاثة عوامل هي: - أن الحركة الإسلامية السودانية ذات المرجعية الإخوانية حظيت في السودان بمعاملة طيبة لم تجد مثلها في أي مكان آخر، لا سيما في وطنها الأصلي مصر حيث عوملت بقسوة شديدة. ولم تخل من أخطاء. - كانت الجسور بينها وبين الآخرين ممتدة، حتى إننا في أواخر السبعينات كونا معاً «جماعة الفكر والثقافة الإسلامية» وضممنا إليها كثيراً من أصحاب التوجه الإسلامي. وكان دستورنا الذي ارتضيناه يوجب مراعاة الآلية الديموقراطية في التوجه الإسلامي، وأن علينا كذلك، ونحن نتطلع للأسلمة، أن نراعي الوجود الجنوبي المعتبر في التكوين السوداني، وأن نراعي كذلك طبيعة دول الجوار ومتطلبات العصر(...). - وفي أواخر الثمانينات اجتمع عدد من ممثلي الحركات الإسلامية، بمن فيهم السودانيون، واستعرضوا حالات التعاون الإخواني مع العسكريين في سبيل الاستيلاء على السلطة وتطبيق الشريعة. وقرروا تجنب ذلك باعتبار ما جرى لدعوتهم من ويلات، واعتبروا أن السبيل الأوحد المأمون هو العمل الشعبي المدني لبلوغ مقاصدهم. هذه الوقائع نشرها في كتاب صدر في عام 1989 السيد عبدالله النفيسي. انقلاب «الإنقاذ» 1989 في مرحلة لاحقة غيرت قيادة الحركة الإسلامية السودانية ذات المرجعية الإخوانية هذا الرهان على الديموقراطية، وشجعهم على ذلك أمران: الأول: الفهم غير الموضوعي للثورة الإسلامية في إيران. وأذكر أنني ود. حسن الترابي حاضرنا أمام طلاب جامعة الخرطوم عن تلك الثورة، وفسرت نجاحها بثلاثة أمور: أولاً: تماسك الكيان القيادي للشيعة الاثني عشرية بموجب نظامهم المرجعي. ثانياً: نهج الشاه الاستلابي الذي عمل على سلخ جلدة إيران الإسلامية. وثالثاً: نتائج التدخل الأميركي في إيران منذ التآمر على محمد مصدق الرئيس المنتخب في إيران في عام 1954، وما أعقب ذلك من تغريب للثروة الوطنية وتعميد الشاه شرطياً حارساً للمصالح الأميركية في منطقة الخليج. لكن د. حسن فسر الثورة الإسلامية في إيران تفسيراً غيبياً لا صلة له بكسب البشر بل بالعناية. هذا الفهم صحبته ظاهرة الحركات الإسلامية وأنشطتها – مثلاً - إقدام الجماعات المصرية على اغتيال الرئيس المصري أنور السادات وتفسير ذلك على أنه تحرك إسلامي للاستيلاء على السلطة في مصر، أقنع هؤلاء أن فجراً إسلامياً قادماً حتماً وأن السنة تحتاج الى ثورة إسلامية. هذا التصور على الأرجح هو الذي دفعهم إلى المغامرة بأسلوبهم الديموقراطي الناجح واختيار الأسلوب الانقلابي. الثاني: صحيح أنهم افتعلوا حجة أخرى للانقلاب، أقول افتعلوا، إذ قالوا إن مذكرة القوات المسلحة في شباط (فبراير) 1989، استهدفت إخراج «الجبهة الإسلامية القومية» من الائتلاف الحاكم. حقيقة هذا الأمر أنني رفضت المذكرة، وهي لم تذكر إبعاد الجبهة الإسلامية من الحكم بل قدمت مطالب سياسية مفتعلة لتغطية إخفاقاتهم العسكرية. ولكن، بمناسبة تلك المذكرة، طلبت من السيد ميرغني النصري عضو مجلس رأس الدولة أن يدعو القوى السياسية كافة إلى اجتماع موسع في القصر. اجتماع شاركت فيه الجبهة الإسلامية القومية حتى آخر يوم ولكن قبل التوقيع على البرنامج المتفق عليه انسحبوا من الاجتماع، ربما كان السبب هو أنهم قد اختاروا الطريق الانقلابي. وعندما تكونت الحكومة الائتلافية بعد ذلك لم يشتركوا فيها، ليس لأن جهة ما طالبت بإبعادهم، ولكن لأنهم لم يوقعوا على البرنامج المتفق عليه والذي شاركوا في صياغته حتى اليوم الأخير. وصحيح أنه في مرحلة لاحقة اجتمع بي قائد القوات المسلحة فتحي أحمد علي ونائبه مهدي بابو نمر وقالا إنهما يستحسنان عدم إشراك «الجبهة الإسلامية القومية» فقلت لهما ستشترك الجبهة في الوزارة إذا هي قبلت البرنامج المطروح. أبلغت د. حسن الترابي بهذا الأمر لئلا يسمعوا إشاعات، كما أبلغته موقفي. صحب الانقلاب إدعاءان كاذبان: الأول، أن انقلاب 30 حزيران (يونيو) هو تحرك للقوات المسلحة السودانية لا لأية جهة حزبية وهي كذبة كانت قابلة للتصديق نتيجة لمذكرة القوات المسلحة المشار إليها في شباط 1989. والثاني: أن لا صلة للجبهة الإسلامية بالانقلاب، وهي كذبة أيضاً قابلة للتصديق بالخدعة التي ذكرها د. حسن الترابي أنهم اتفقوا أن يذهب البشير للقصر رئيساً والترابي للسجن حبيساً. لقد صحب الانقلاب تزوير كبير لم يعد الذين فعلوه يغالطون في حقيقته. ساعدت الانقلاب ظروف إقليمية ودولية: فالحكومة المصرية رحبت به إذ أعمتها الخدعة وظنت الانقلاب بلا لون أيديولوجي، إذ التعامل مع العسكريين مريح لا سيما أنها لم تكن راضية على التجربة الديموقراطية في السودان لأسباب محددة. كنا نحن بعد انتفاضة نيسان (أبريل) 1985 نعتبر أن نظام جعفر نميري رهن العلاقة السودانية المصرية لمصلحة بقائه وأمنه، كما أن اتفاقية الدفاع المشترك كانت تحت مظلة حلف الناتو. وكان اتجاه كل القوى السياسية التي أطاحت نميري رفض التكامل مع الحكومة المصرية الذي أبرمه النميري وإقامة العلاقة بين البلدين على أساس جديد، ورفض أيضاً أية علاقة محورية تربط السودان بالمعسكر الغربي لأننا نقف في حياد بين المعسكرين، هذه المطالب كانت أبلغ لدى القوى الجنوبية وقد ضمن هذا في إعلان كوكادام. هذه الرؤى لم تكن مقبولة لدى الحكومة المصرية على رغم تجاوبها الظاهري. لذلك رحبت بالانقلاب وروجت له ظناً أنه سيستأنف معها العلاقات كما كانت في عهد نميري. وللأسباب نفسها رحبت الولاياتالمتحدة بالانقلاب. والمدهش أن أميركا كالحكومة المصرية لم تكن مدركة أيديولوجية الانقلاب الحقيقية. وربما ظنوا أن النظام الجديد سيستأنف معهم تسهيلات ترحيل الفلاشا من إثيوبيا إلى إسرائيل ويمنحهم تسهيلات عسكرية في البحر الأحمر على نحو ما فعل نظام نميري، وهي أمور رفضها الحكم الديموقراطي فذهب غير مأسوف عليه. وهنالك من يرون أن الأميركيين ساهموا بصورة ما في تقويض الحكم الديموقراطي، وهو اتهام غير مستبعد، فقد فعلوا ذلك ضد محمد مصدق في ايران وضد أليندي في تشيلي. هنالك تفسير آخر لموقف واشنطن لا يخلو من المعقولية وذكره لي العميد الأمني حسن بيومي وهو عليم بالأساليب الأميركية وقد بعث الى واشنطن في مهمة تدريبية. قال: الأميركيون استدرجوا الجبهة الإسلامية القومية للاستيلاء على السلطة وساعدهم في ذلك بعض عملاء أميركا المعروفين، وذلك لإقامة نظام «إسلامي» تجعله ظروف السودان الداخلية والخارجية فاشلاً فيذهب ذلك نهائياً ببريق الشعار الإسلامي. والمدهش أن الانقلاب وجد ترحيباً كذلك من بعض الدعاة الإسلاميين الذين يتحدثون كثيراً عن حقوق الإنسان والديموقراطية، لكن بعضهم أدلى بتصريحات في غاية السطحية بل في غاية الضرر للقضية الإسلامية - مثلاً - الشيخ يوسف القرضاوي سئل عن التغيير بالقوة فاستنكر القيام بانقلاب من دون تحضير مثلما فعل «شباب الفنية العسكرية» في مصر حيث نظموا انقلاباً بطلاب في مدرسة، لكنه أجاز انقلاب السودان قائلاً: حدثت خلخلة، وكان لا بد أن يقفز على الحكم أناس إذا لم يكن الإسلاميون فالشيوعيون أو غيرهم، فأخذوا الحكم من دون يريقوا قطرة من دم، لا مانع من هذا»، والسيد فهمي هويدي بارك النظام الانقلابي بوصفه لمجلس قيادة الثورة الانقلابي انه: «مجلس الصحابة الذي يحكم السودان!». المشاكل التي واجهتها تجربة «الإنقاذ» التجربة الانقلابية السودانية التي سمت نفسها «الإنقاذ» واجهت منذ البداية مشاكل من بينها: أولاً: أ - في الأنشطة السياسية كافة التي يشترك فيها مدنيون وعسكريون ينشأ توتر. فإذا كان الأمر يتعلق بانقلاب عسكري حتى إذا تطابق الموقف الأيديولوجي ينشأ خلاف حول طبيعة النظام وطريقة الحكم ومركز اتخاذ القرار. وفي العادة يحسم هذا الخلاف لمصلحة العسكريين. هذا ما حكاه منيف الرزاز في كتابه «التجربة المرة» عن الضباط البعثيين أنهم صفوا الحزب وحكموا بأسلوبهم. إنها الظاهرة البونابارتية التي وصفتها شعراً بقولي: من تمطي باسماً ظهر النمر حتماً سيأكله ويبتسم النمر إنها من المعاني التي طرقها أبو الطيب بقوله: ومن يجعل الضرغام بازاً لصيده تصيده الضرغام فيما تصيدا أ - الحركات الإسلامية عادة تنجح في التعبئة والمعارضة لأنها تستطيع التركيز على شعارات بسيطة تشد الجماهير، لكن هذا النجاح لا تصحبه عادة برامج محددة فإذا آلت إليهم المسؤولية انكشف هذا الضعف. وهو ما حدث لانقلاب «الإنقاذ» وما أظهر من غياب البرامج والتخبط في الملفات كافة. ب - القوى السياسية الحزبية في السودان ليست بعيدة عن الإسلام، فكل القوى الجماهيرية ذات مرجعية إسلامية. لذلك عندما ادعى الانقلاب أنه هو المتحدث الوحيد باسم الإسلام وقع استقطاب حاد في الجسم الإسلامي في السودان. إنه من عيوب الحركات الإسلامية الحديثة أنها تحتكر الإسلام لنفسها وتعتبر موقفها هو الإسلام وتعتبر الآخرين إما جهلة، أو غافلين، أو كفاراً. هكذا نشأ استقطاب حاد في الجسم الإسلامي في السودان. ثانياً: الحرب الأهلية في الجنوب كانت أشبه بحركة مطلبية تطالب بنصيب عادل في السلطة وفي الثروة، وبالاستثناء من تطبيق الأحكام الإسلامية عليهم. انقلاب «الإنقاذ» أعلن عن هوية إسلامية وفي مرحلة التطابق الإسلامي القومي التي نشأت في وجه سياسيات الولاياتالمتحدة والتي رعاها الرئيس العراقي صدام حسين قاد «الإنقاذيون» عملاً إسلامياً عروبياً جسده «المؤتمر الشعبي الإسلامي العربي» الذي كونه النظام في عام 1992، وهو التوجه الذي قاد الى إجماع الجنوبيين على مطلب تقرير المصير. ثالثاً: شعارات النظام الجديد في السودان استعدت دول الجوار التي تخشى من انتقال العدوى اليها، لذلك استعدت لاحتواء النظام السوداني وجهرت بعداوته. رابعاً: نشأت ضد النظام لوبيات دولية واسعة - مثلاً - في أميركا: لوبي مسيحي لحماية المسيحيين السودانيين – ولوبي صهيوني مستعد دائماً لاستغلال التناقضات العربية، ولوبي حقوق الإنسان ضد الممارسات القمعية في السودان، ولوبي أفريقي - أميركي، ولوبي ضد الإرهاب، ولوبي الحريات الدينية، ولوبي محاربة الرق. هذه اللوبيات استهدفت النظام السوداني واستمالت بعض الدول الغربية الى مواقفها. هذه العوامل عزلت النظام عزلة بلغت أقصاها في عام 1996 وقادت النظام للتراجع في 1997. وعلى رغم التراجع استمر الاستقطاب، إذ بدا لكثير من سكان المناطق الطرفية في السودان في الشرق والغرب، أن أهل الشمال والوسط استأثروا بأمر الوطن في السلطة والثروة، وأن هذه الظاهرة قد بلغت أوجها على يد نظام «الإنقاذ»، لا سيما تهميش العناصر غير العربية. هؤلاء من أهل دارفور ألفوا «الكتاب الأسود» الذي حمل تلك المعاني، وكان بمثابة التمهيد لما حدث بعد ذلك في دارفور من عمل مسلح موجه ضد الحكومة المركزية. الانقلاب كان عملاً للجبهة الإسلامية القومية في إطار «التمكين لشرع الله»، لكن النظام صمت عن ذلك تقية كما قالوا. وبعد عام ونصف العام، تحديداً في 1/1/1991 وفي خطاب الرئيس عمر البشير في عيد الاستقلال أعلن أن ذلك العام سيشهد البدء الفوري في تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان. ظهر هذا التطبيق في ما سمي المشروع الحضاري، وتنزل في الكثير من المظاهر، أهمها: - الخطاب الأيديولوجي السائد في أجهزة الإعلام والذي ينادي بالشعار الإسلامي ويكفّر ويخوِّن معارضي النظام باعتبارهم مخالفين لشرع الله. - الكثير من التشريعات التي استنبطت من أحكام الشريعة الإسلامية، أهمها القانون الجنائي لعام 1991 وقانون الأحوال الشخصية للمسلمين لعام 1991، وقانون تنظيم العمل المصرفي لعام 1991، وقانون الزكاة لعام 1990، وقانون بنك السودان لعام 2002. - صك قوانين النظام العام الولائية. وعبرها تم التركيز على مظاهر التدين في المجتمع مثل فرض ما سمي ب «الحجاب» على المرأة السودانية في المرافق العامة وفي الشارع. وفرض ممارسات معينة كإغلاق المتاجر يوم الجمعة بالقانون ومنع الكثير من الممارسات باعتبارها مخالفة للشريعة. - السعي الى عمل شبكات مع تيارات الحركية الإسلامية الاحتجاجية العالمية، عبر المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي المذكور. واستهداف أمريكا وروسيا باعتبارهما دولتي كفر. - المناداة بالواحدية السياسية باعتبارها صنواً لواحدية الرب، والقول بالتالي بأن التعددية السياسية كفر. فالمؤتمر الوطني نشأ باعتباره الحزب الأوحد، حتى تم التراجع لاحقاً إلى قبول ما سمي التوالي السياسي في 1998، ثم أخيراً القبول الظاهري بالتعددية الآن. كل التشريعات التي سنّت في عهد الإنقاذ وهي مكونة من عشرات القوانين ودستوري 1998 و2005 تدعي أنها تستمد من الشريعة الإسلامية أو أنها لتنزيل شرع الله وتثبيت «المشروع الحضاري». إن نقدنا هذه التجربة موزع في كتابات كثيرة، لكننا نشير إلى نقد مفهوم «الحاكمية لله» في دستور 1998، و «المصارف الإسلامية» كما نص عليها قانون العمل المصرفي، وعلل كل التشريعات الإسلاموية المتخذة إجمالاً (...). وتضافرت التشريعات الشائهة في نظام «الانقاذ» مع ممارسات انتسبت للإسلام وأضرت بسمعته، كما أنها جثمت على صدر الوطن وأضرت بعافيته. ومن موبقات التجربة في حق الدين الإسلامي: أولاً: أنهم استولوا على السلطة تآمراً وقهراً، والسلطة الشرعية في الإسلام لا تكون إلا شورى ومن طريق الشورى. هؤلاء خالفوا المبدأ (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) وبعد عام ونصف العام طلبوا من الناس البيعة لقائد النظام. واعتبروا من لم يؤيدوهم مارقين أعداء للدين. فأحدثوا صدعاً عميقاً بين المسلمين. إيجاب البيعة على الناس بعد الاستيلاء على السلطة نفسه بدعة ذميمة، فالبيعة (قبلية) – أي قبل ممارسة السلطة لا بعدها. ثانياً: سمّوا الحرب الدائرة في جنوب السودان جهاداً فنتج من ذلك للمرة الأولى المطلب الجنوبي بتقرير المصير بحجة أن البلد الذي تقوم هويته على الإسلام وحده يستبعد غير المسلمين بالضرورة. بينما مواطنو الجنوب أهل عهد ومواطنة، وقد حاربتهم الدولة السودانية لحملهم السلاح، ولكن لا يجوز أن تعطى حربهم طابعاً دينياً. كما لا يجوز لأحد لم يتول السلطة بأسلوب الشريعة أن يعلن الجهاد. ثالثاً: أصدروا قانوناً للزكاة غير ملتزم بضوابطها يقتطع الزكاة من المرتبات والأجور من مصدرها من غير مراعاة لحالة الموظف الاجتماعية. كذلك فرضوا الزكاة على المستغلات مثل عربات التاكسي، وتتم جباية الزكاة منهم في بداية السنة من دون مراعاة حالتهم الاجتماعية. قانون الزكاة جعلها ضريبة مزدوجة على المسلمين وأدخلها في كل المعاملات التجارية. وبما أنه لا تؤخذ زكاة من غير المسلمين سوى الضرائب المعتادة فقد فرض القانون عبئاً مالياً على الشخص لكونه مسلماً لأنه يدفع الزكاة والضرائب في الوقت نفسه. كذلك يتم صرف أموال الزكاة عبر مؤسسات خاضعة للسيطرة الحزبية. وأصدروا قانوناً للعقوبات - القانون الجنائي لعام 1991 - غير مشاركة وشورى الآخرين. رابعاً: كذلك أقاموا معاملات النظام المصرفي على أساس صيغ سموها إسلامية مثل المرابحة والسلم، وهي أبعد ما تكون في أثرها الاقتصادي من مقاصد الشريعة. الصيغ التي لجأوا إليها صالحة للتبادل التجاري لا للتمويل. واستخدامها للتمويل شوه التمويل والتبادل التجاري. ليس سعر الفائدة هو الربا المحرم شرعاً وقد أفتى بذلك كثير من الفقهاء ذوي الإلمام بالأمر. لكن الصيغ المسماة إسلامية لم تقدم أي صيغة للإقراض الأساسي المعهود للتمويل. خامسا: نظام الحكم الذي أقاموه لا يمكن تشبيهه بأية تجربة إسلامية حقيقية. إنه أشبه بالنظام الفاشستي وبالتطبيق البيروقراطي للماركسية، أي النظام الستاليني، وما جرى للفاشستية والستالينية من تعديلات تناسب الشرق الأوسط، فصارت كل النظم الشرق أوسطية التي أقامها الانقلابيون تتشابه. سادساً: ارتكبوا مخالفة شرعية كبيرة إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم: من بلغ حداً في غير حد فقد ظلم. أعدموا ثلاثة مواطنين هم مجدي محجوب وجرجس بطرس وأركانجلو أقادو لحيازتهم عملة صعبة. أعدموهم لحيازتهم مالاً هو مالهم لمخالفة أوامر إدارية متغيرة، وما لبثت أن تغيرت! سابعاً: هذا إضافة الى خزعبلات عجيبة مثل ضمان الجنة لقتلاهم، وعقد النكاح للحوريات! وإقامة الأفراح لمناسبة موتهم وغيرها من الممارسات التي ما أنزل الله بها من سلطان. ومن الموبقات في حق الوطن السوداني: - قوّضوا الدولة الحديثة في السودان وجعلوا مؤسساتها مسخاً خاضعاً لسيطرة المحاسيب ومؤيدي الحزب الحاكم. - صفوا دولة الرعاية الاجتماعية التي كانت عبر دعم التعليم والصحة والدواء والغذاء تأخذ بأيدي المستضعفين من أهل السودان. - خرّبوا التعليم العام والفني والعالي وجعلوه أداة لسياساتهم الحزبية ومشروعاتهم الحربية. - شردوا العمال والموظفين، بل خلقوا ظروفاً طاردة جعلت السودانيين الآن مشردين في أنحاء العالم. - أقاموا الدولة البوليسية الثانية في السودان بعد دولة مايو، لكنها فاقت دولة مايو في عنفها وفي بطشها ما أدى الى زرع ثقافة العنف في السودان بصورة لم يعهد لها مثيلاً في تاريخه الحديث. - جعلوا المعيشة في السودان لا تطاق وأفقدوا العملة الوطنية قيمتها حتى صار الجنيه السوداني لا يساوي قيمة الورق الذي طبع عليه... - استباحوا الشأن السوداني ما جعله مدولاً يلوكه الداني والقاصي. - يهاجمون غيرهم بأنهم حملوا السلاح واستعانوا بالأجنبي. إن حمل السلاح والاستعانة بالأجنبي أمور سيئة، ولكن السؤال المشروع: من الذي سببها؟ ومن الذي بدأها؟ هم الذين يمموا بداية شطر الإيقاد وأصموا سمعهم عن البرنامج الوطني الذي كان مبرمجاً للسلام وقالوا إنه بيع للشريعة، فهل اشترتها مبادرة الإيقاد؟ جملة القول إن التجربة الإسلاموية الإنقاذية هذه حققت ضد مقاصدها، ونحن الآن أبعد من الشرع إلا قشرياً فمقاصد الشريعة كافة مهزومة، وكنا نبرمج لتطبيق الأحكام الشرعية وفق الشرعية الديموقراطية في شكل مدروس ومتفق عليه، ونحن الآن أبعد من الوحدة الوطنية بل الوطن على حافة ألاّ يكون، وأبعد من السيادة الوطنية، وأبعد من الكفاية الاقتصادية ورفع المعاناة عن كاهل المواطنين، وأبعد من العلاقات الجيدة مع الأسرة الدولية ومع الجيران. وهذه هي الأهداف التي أعلنتها الإنقاذ في بدايتها واستبطنت إحداها ولم تعلنها بداية، وهي تطبيق الشريعة. نظام حكم السودان اليوم لا يمكن تبريره بأية نصوص إسلامية، وسابقة إسلامية، بل هو صورة سودانية من النظم الشرق أوسطية التي تقوم على سبعة أركان هي: - حزب حاكم متماهٍ مع الحكومة بحيث هو ذراعها السياسي وهي أداته التنفيذية. - تعددية زخرفية فاعليتها معطلة بوسائل عدة بما في ذلك الانتخابات المزورة. - إعلام يسخّر الميديا الرسمية للتطبيل. - نظام أمني معني بأمن النظام لا أمن المواطن ولا أمن الوطن. - اقتصاد يدور حول فلك المحاسيب. - علاقات خارجية محورية. - تقلص الأيديولوجية لدرجة قريبة من الصفر أمام اعتبارات مصلحة السلطة وضرورة المحافظة عليها بأية وسيلة. هل يمكن هذه التجربة التي كما رأينا زورت الانقلاب ثم ها هي تزور الانتخاب، أن تعتبر بأي منطق أنموذجاً لتجربة إسلامية عصرية؟ الجواب طبعاً: لا، بل في المحافل الإسلامية تعتبر شاهداً على سوء استغلال الشعار الإسلامي، ويتحدث كثير من الغربيين بالإشارة إلى هذه التجربة وأمثالها بعبارة «فشل الإسلام السياسي». بل يمكن اعتبار التجربة السودانية أوضح تلبية لتوقعات أجهزة استخبارات غربية كانت تقول في نهاية السبعينات إن أفضل وسيلتين لمواجهة «خطر» التحدي الإسلامي هما: الاختراق والإخفاق. أي أن تقوم تجارب إسلامية تخترق أو تقوم وتخفق فيلحق بها من الدمار ما لحق بالشعار القومي العربي. التجربة السودانية دمرت وطناً باسم تطبيق الشريعة: ربط اسم الإسلام بالقهر والعنف، والظلم، وتفكيك عرى الوطن، وتدويل الشأن الوطني. فهل تكون هذه التجربة بمثابة إعدام لدور الإسلام في الحياة العامة والسياسية؟ هل يذوي الشعار الإسلامي في السودان؟ الحقيقة هي أنه على رغم رفع جعفر نميري الشعار الإسلامي وكذلك ضياء الحق في باكستان، وعلى رغم تجربة «الإنقاذ» في السودان وتجارب أخرى رفعت الشعار الإسلامي وأخفقت إخفاقاً واضحاً. فإن الإسلام ما زال في معظم البلدان الإسلامية يستأثر بالرأسمال الاجتماعي. وما زال يحتفظ بصفة البديل للأوضاع القائمة بصورة تلقائية بحيث يؤدي المزيد من الديموقراطية إلى المزيد من الأسلمة – لماذا؟ إن للإسلام حيوية ذاتية تجعله يتوهج على رغم تمسح الفاشلين به. بل تجعله يتمدد في أنحاء العالم رغم ضعف المسلمين وهوانهم! يساعد على توهج الإسلام أن الأيديولوجيات الوضعية مطعونة في إخفاقاتها: - فالليبرالية أخفقت في استيعاب الخصوصية الثقافية وبدت كأنها مرآة للخارج. - والاشتراكية حققت عكس مقاصدها العدالية وأغرقت الكون بالدماء. - القومية العربية لم تجد معادلة مجدية للتعامل مع الإسلام، ولا مع غير العرب من القوميات ولم تفلح في تقديم أنموذج للحكم الراشد. - والعلمانيون لم يفلحوا في إيجاد مُرَكب يجمع بين النهج المدني والخصوصية الثقافية. بل ظلوا مخندقين في أصولية علمانية همها الأول طرد الدين من الشأن العام على رغم الدلائل على استحالة ذلك حتى في البلدان التي تعلن انتماء علمانياً (...). في السودان وفي العالم الإسلامي عامة وبصرف النظر عن موقف الإسلام الرسمي الذي تمثله الجامعات والمعاهد ومنابر الإفتاء الرسمي، وبصرف النظر عن الإسلام الاجتماعي الذي تمثله الحركات الصوفية والمنظمات الطوعية الخيرية، فإن العقل السياسي والحركي للإسلام سيتنافس عليه التياران الماضوي والمستقبلي. ولا يستطيع عاقل أن يدعي أن تجربة «الإنقاذ» تصلح قدوة للحل الإسلامي.