كعادة غادة السمان في نشر رسائلها مع غسان كنفاني والآن مع أنسي الحاج، ثارت زوبعة وأقامت قيامة في وسائل التواصل الاجتماعي بين داعم ورافض لنشر رسائل لراحلين ومن جانب واحد فقط، هنا استطلعنا آراء لبعض المثقفين والمثقفات حول هذا الموضوع متسائلين: هل هناك من خيانة أدبية وإنسانية في النشر؟ ولماذا النشر بعد غياب الآخر ومن دون نشر الرسائل الأخرى في المقابل؟ الشاعر عبدالرزاق الربيعي يرى أن هذا أمر «يتوقف على مضامين الرسائل وعلى القصد والنية من نشرها، فإذا كان مرادها إظهار الذات، وبالتالي ستتسبب في تشويه صورة الأديب في نظر جمهوره، وأسرته، كما حصل بعد نشر رسائل كنفاني، إذ أظهرته بعض الرسائل بمظهر العاشق المراهق، وكان يمكن حذف بعض السطور، احتراماً لتلك الصورة، ومن هنا فإن عملية النشر مرفوضة، أما إذا كان الهدف هو حفظ القيمة الأدبية، فذلك شأن محمود. بالنسبة لما فعلته الكاتبة غادة السمان، في نشر رسائل الحاج، فإنه يدخل في باب مفاجأة القراء، ومحبي الحاج بالقيمة الأدبية لرسائله التي كانت ستكون في مهب النسيان بعد ردح من الزمن، لذا يمكن إدراجه ضمن حفظ التراث الأدبي لأنسي الحاج، خصوصاً أن كل ما يصدر عن المبدع هو إبداع، وأدب الرسائل جنس أوشك على الانقراض، فهي محاولة لإحياء ذلك». وأما الروائية والكاتبة السعودية رحاب أبوزيد فتقول: «لا أظن أننا بحاجة لمحاكمة تجربة عاطفية ذات صبغة أدبية فخمة محاكمة أخلاقية، في ظل انحسار الدلالة العذبة لمسمى أديب، حيث اللغة المتجددة والتباين والبلاغة اللفظية لم تعد شهادة جواز للفصل بين كاتب وآخر، يجب أن نحتفي بعمل كهذا يعيدنا ويشهد الأجيال على تاريخ الحب.. وتاريخ الكتابة». وترى أنه يجوز لغادة السمان «ما لا يجوز لغيرها، نحن - وهي معنا - وجدنا أنفسنا ننتمي لعصر انعدام الخصوصية واللهاث لتصوير اللحظات العابرة صوراً لا لتبقى في الذاكرة ولا لتأصيل متعة المشاركة، إنما لتأطير حياتنا وإبرازها على نحو ظاهري سطحي يعبر اختلاقاً عن مستوانا المادي أو ميولنا النفسية، في حين تقدم لنا غادة عودة أنيقة على طبق من ذهب لأدب الرسائل ولكنز حقيقي غير مختلق.. وما يشفع لغادة السمان أنه لولا الفارق الزمني بين توقيت كتابة هذه الرسائل وتوقيت نشرها لربما كان للأمر ردات فعل أكثر ضراوة.. أحيي من هذه الفرصة السانحة جرأة هذه الشاعرة النبيلة، التي ما تزال تعيش على القيمة والمعنى الفخم وأبت إلا أن تصحبنا معها». شؤون صغيرة وحميمة في حين تتحفظ الشاعرة الدكتورة أشجان هندي على هذا الأمر، وتوضح تحفظها بالقول: «أتحفّظ حول ذلك، على رغم الإثراء الأدبي، والمتعة الفنيّة التي قد تهم المتلقّي. أعتبر ذلك شؤوناً إنسانية خاصة - وإن كان أقطابها أدباء، أو من الشخصيات المشهورة في أي مجال كان - فالشؤون الإنسانية المختلفة وخصوصاً الصغيرة والحميمة منها، مكانها صدور أصحابها، لا شاشة عامّة! ويزداد الأمر تعقيداً، وحساسيّةً تُرجّح ميزان عدم القبول عندما يكون ذلك النشر من طرف واحد فقط! فما يشترك في صنعه وتكوينه وتشكيل تفاصيله طرفان ينبغي أن يُراعى فيه شرط قبول النشر من كلا الطرفين، خصوصاً في حالة موت أحدهما، وانتهاء قدرته تماماً على القبول أو الرفض، أو من جهة أخرى: على الرد أو التعليق»! وتقول أشجان هندي أن الأهم «أن ما سبق يُمثّل رأياً شخصياً ليس مُلزمًا بطبيعة الأمر، ولا أفرضه على سواه من الآراء الأخرى، وإن اختلفت معها. إلا أن تكون الرسائل أو التفاصيل التي تُنشر - في مثل هذه الحالات - أدبيّة خالصة تتناول قضايا ومواضيع عامّة لا تقترب من الخصوصيات والحميم، فلا أرى بأساً في نشرها، لأنها في هذه الحالة ستكون - بالتأكيد - مُثرية أدبياً وستحقق للمتلقي جانب المتعة الفنية، وقد يُمثِّل نشر مثل هذه الرسائل وغيرها من التفاصيل الصغيرة والحميمة مادة خصبة للإعلام وللناس، ولكن ذلك للأسف قد يأتي على حساب مبدأ إنساني يُراعي حرية الفرد، والحفاظ على شؤونه الإنسانية الخاصة والحميمة، بعيداً عن مواطن العرض والطلب! في حياته، وبعد مماته على نحو خاص»، مضيفة أنه «مهما قلنا بأهمية نشر مثل ذلك على الصعيد الأدبي أو سواه من الأصعدة الأخرى التي تمس شخصيات أخرى، فعلينا أن نضع في الاعتبار أن هؤلاء الأدباء، أو غيرهم من مشاهير الفن أو السياسة أو خلافه، ما هم إلا أُناس و بشر يسري عليهم ما يسري على غيرهم في ما يخص المبدأ الإنساني الذي يراعي الحفاظ على الجانب الخاص من حياة الأفراد، وإذا وضعنا جانب المنفعة الأدبية وسواها من ذلك، والجانب الإنساني في مواجهة حول ذلك: سأختار الجانب الإنساني، مؤكدة مرة أخرى على أن هذا اختيار خاص غير مُلزم. وقد يبُسّط كل هذه الوعورة والمحاذير الحصول على موافقة خطيّة بين الأشخاص - وخصوصاً المشاهير - الذين قد يرتبطون بعلاقة إنسانية ما، على أن تكون هذه الموافقة مزدوجة، وليست من جهة واحدة فقط، والأهم أن تتم قبل وفاة أحد الطرفين». انحياز صريح أما الدكتور مبارك الخالدي فينحاز بصراحة ووضوح إلى جانب الأديبة غادة السمّان في قرارها نشر رسائل أنسي الحاج إليها، «انحيازاً يضرب بجذوره في المقام الأول في تجربتين ذاتيتين تعودان إلى فترتي الدراسة للماجستير والدكتوراه. ففي النصف الثاني من عقد الثمانينات من القرن الماضي، وفي جامعة أنديانا في بلومنغتون، كان أن سجلت في كورس كان متطلباً إلى حد الإرهاق، ومفيداً في الآن ذاته. وكان من أحد التكليفات التي قررها الأستاذ هو أن أحقق رسائل الروائي الأميركي جون دوس باسوس المحفوظة في مكتبة لِيلِي للمخطوطات والكتب النادرة في الجامعة. كان علي أن أحققها وأكتب مقدمة لها، كما لو أني أعدها للطباعة، هذا إضافة إلى كتابة خطاب للناشر. لم يكن الأمر سهلا إطلاقاً، لكنني استمتعت بانكشاف جوانب مختلفة من شخصية وحياة جون دوس باسوس، وبالبحث وكتابة الحواشي عن كل شاردة وواردة في رسائله من شخصيات وأحداث. تكررت التجربة على نحو مختلف في كورس/ سيمنار السيرة مع البروفيسورة ديدرا بير، أستاذ السيرة في جامعة كولومبيا، أثناء وجودها أستاذاً زائراً في جامعة ولاية أوهايو الحكومية في كولُمبس. لم تكن ديدرا بير أستاذا فحسب، بل كانت مؤلفة سيرتي صاموئيل بيكيت، وسيمون دي بوفوار، وكانت تشتغل على سيرة أناييس نين وقتذاك. وكان أن فاجأتها عندما حدثتها عن مشروعي للمتطلب الأخير في الفصل بقولي إنه تطبيقي في كتابة السيرة. وأني أريد كتابة ما أعده الفصل الأخير في حياة وسيرة الشاعر الإنكليزي ويلفرد أوين، تجربته في الحرب العالمية الأولى التي انتهت بموته شاباً، إذ كنت أقرأ قصائده على الجانب آنذاك. لم ترحب البروفيسورة بير بالفكرة في البداية لأن في ذلك مغامرة غير مأمونة النتائج كما قالت، وطلبت أن أختار موضوعاً كالمواضيع التي اختارها زملائي وزميلاتي، لكنها وافقت في النهاية أمام إصراري. فشرعت في كتابة الفصل الذي كان مزيجاً من حقيقة وخيال استعنت بالخيال لسد الثغرات في سيرة أوين. كانت مصادري قليلة جداً: قصائده ورسائله التي كان يرسلها من الميدان وما قرأته عن الحرب العالمية. لم يكن ذلك ممكناً من دون رسائله التي كشفت ما كان يكنه في نفسه من مشاعر وأحاسيس وأفكار ومخاوف. واستعنت بكل ذلك على تخيل ما كان يدور في أغوار نفسه إلى إن لفظ آخر أنفاسه، مُوظفاً تقنيتي المونولوغ الداخلي وتيار الوعي. وكانت النتيجة مبهرة ورائعة بحسب تعليق البروفيسورة بير. على ضوء هاتين التجربتين المثريتين لي شخصياً بالتأكيد واللتين فتحتا عيني على الأهمية والقيمة الأدبية لرسائل الأدباء، واستمتاعي بقراءة رسائل غسان كنفاني إليها، لا أستطيع إلا أن أكون مؤيداً للأديبة السمّان في نشرها رسائل أنسي الحاج، التي سترسم صورة للحاج من الداخل كما رسمت رسائل كنفاني، وليرى القراء جانباً أو جوانب مجهولة من شخصية الحاج. ولا يقل أهمية عن ذلك استمرارها في ما سمته التأسيس لنوع أدبي معدوم في العالم العربي وهو أدب المراسلات، مراسلات الاعتراف، شبه المفقود في لوحة الأدب العربي. ستتيح رسائل الحاج أن يراه القراء من الداخل عن قرب وبوضوح، وأن يعرفوه بشكل أعمق وأكثر ألفة، فما الضرر في ذلك؟ فلربما تكون رسائله مصدراً من المصادر في كتابة سيرته. والأهم توسعة مساحة التعبير والبوح».