الكثير من نصوص غادة السمان أقرب الى أدب الرسائل من حيث البنية والأسلوب، ولعل هذا الضرب من الكتابة يتصل بالبعد العاطفي الحميمي الذي أشاع على يدها رومانسية محدثة في الأدب العربي. غادة السمان نافست نزار قباني في اختراع قاموس الحب النسوي، وحيث سارت على دربها كاتبات كثيرات تجاوزنها فنيا، بقي فن البوح في روايتهن يحمل بصماتها. ميزة هذا النوع من الكتابة، تبرز في قدرتها على ما توحي به من تطابق بين التجربة الشخصية والخيالية، فالمؤلفة تصبح بطلة حكاية الحب التي ترويها، لأن هذا الموقع يحقق أحد شروط التعاقد الخفي بينها وبين القاريء الفضولي، أو ما يسمى " القارىء البصاص" ويشكل النموذج المثالي بين جماهير الرويات الغرامية. تكرّست الكاتبة الأنثى أو الكتابة الأنثوية من خلال أدب مجموعة من الشاعرات والروائيات منذ الستينيات إلى اليوم، ولكن تلك الجرأة المكثفة للأنوثة اللغوية والأسلوبية بدت في أدب غادة السمان أشد وضوحا، بل تحمل بصمة ريادية. لعل الذي استكمل صيغة التطابق بين ادب غادة السمان وحياتها، تلك الأعمدة الصحافية التي سجلت فيها نصوصا لا تختلف من حيث النبرة والمواضيع عن سانحاتها القصصية، وتوّج كل ذلك نشرها رسائل غسان كنفاني الموجهة إليها. ومن بين المفارقات أن نصوص تلك الرسائل أقرب الى أدب غادة السمان منها إلى أدب كاتبها، الأمر الذي يشير إلى وقوع كنفاني في سحر الكاتبة الأنثى، وليس بين حدي الانثى والكاتبة سوى برزخ الخيال. نشر تلك الرسائل بادرة ترينا الفرق بين السمّان وديزي الأمير التي نشرت رسائل خليل حاوي قبلها، فالعراقية تقوم بعملية "تهذيب" لفعل الحب حين تشطب فقرات تظنها معيبة في تلك الرسائل، وتحذف اسمها حتى وهي تطلق الرسائل من خزانتها الشخصية. في حين تفخر الدمشقية كون صاحب الرسائل " أحب رجالي إلى قلبي ". لا شك ان مياها كثيرة مرت تحت جسور الأدب العربي بعد كتابة تلك الرسائل، وعلينا ونحن نقرأها متأخرين، ان ننظر بتفهّم نحو ما تبطن من نزعة ميلودرامية انتهى عصرها. ولكن هذه الرسائل تبقى وثيقة اجتماعية، حسبما تورد الناشرة في مقدمتها، وكل ما كُتب عنها يشكل القيمة المضافة لأرشيف المجتمع الثقافي العربي وردود افعاله، بل مواقفه من الحب والبطولة السياسية. ذاك ان غسان كنفاني بأدبه ومصيره المأساوي شكل رمزا بطوليا، وكل التعليقات التي وفرتها دار الطليعة في الطبعة الخامسة 2005، لمائتي كاتب وكاتبة حول الرسائل، تشير الى تلك الحظوة التي يتمتع بها هذا النوع من الأدب المفقود من ارشيفات العرب. قوس التعليقات لا يحيلنا الى الرسائل رغم انه يتحدث عنها، بل إلى قضيتين تشغلان الكتّاب والكاتبات: لماذا كان الرجل على هذه الدرجة من "العاطفية" الضعيفة والمتوسلة، وهو الذي كان نجم الصالونات الأدبية ببيروت او هكذا يفترض، وسيم وقائد ثقافي تتجمع حوله النساء اللواتي انخرطن في النضال على جبهات مختلفة بما فيها الجبهة الثقافية؟ غادة السمان والسؤال الثاني لماذا تحاول غادة السمّان نشر ذلك الضعف، وهي لا تتطرق في مقدمتها الى ما كتبته في رسائلها المفقودة من مشاعر توازي تلك التي يبديها غسان نحوها؟ حجة السمّان وكل من يؤمن بأهمية ما فعلت، ان هذا الجانب فيه يؤكد قيمته الإنسانية والنضالية، فهي تقول : " ثمة ميل دائم في الأدب العربي بالذات لرسم "المناضل" في صورة "السوبرمان" .. ولتحييده أمام السحر الانثوي وتنجيه من التجربة. وفي رسائل غسان صورة للمناضل من الداخل قبل ان يدخل في سجن الأسطورة، ويتم تحويله من رجل الى تمثال في الكواليس المسرحية السياسية" . وسنجد تعليقات المؤيدين لها ما يعيد هذا القول. في حين يرى الآخرون ان نشرها الرسائل مجرد خطوة لا تخرج عن اطار المباهاة وتكريس النرجسية او محاولة تقليل قيمة المناضل الصلب الذي عرفه الناس. بمقدورنا أن نخلص من مقدمة الكاتبة ما ينبهنا إلى حق المناضل في ان يقع تحت تأثير "السحر الأنثوي" حسب تعبيرها، ولا يبدو من خلال الرسائل ان الذي بين غسان وغادة غير هذا، فغسان العاشق صريع هذا السحر الأنثوي، وصيغة المناجاة في لغته تؤكد هذا المنحى : " ليقف الفارس في ذلك الخلاء الأجرد ويصيح في وجه الريح: إنني أحبك! فذاك هو قدره الذي تتوازى فيه الخسارة بالربح. إنك الخصب أيتها الجميلة الشقية.. ليس ثمة إلا ان أنتظرك في غيابك وفي حضورك. في الشمس وفي المطر، تحت تطاير الكلمات من شفاهنا وبين التصاقهما. وثمة حقول من طحلب غير مرئي اسمه الانتظار تنمو على راحتي يدينا حين تمطر فوقهما المصافحة." تخرج الأنثى هنا بطلة من فيلم رومانسي، وتطابق صورتها صور بطلات السمّان، وكلهن يتمتعن بنعمة السحر الأنثوي، وهذه النعمة تجمع الجمال الجسدي الى القوة والعزيمة مع سأم يأكل ساعات الفراغ. انتهى هذا النمط من الايقونات النسائية واستبدل بنساء مختلفات، ولكن أدب الحب عند العرب، وخاصة الذي تكتبه المرأة مابرح يراوح عند تلك النقطة. الذي نفتقده في هذه الرسائل هو ما يفترض أن يدور من أحاديث بين مثقف ومثقفة، فكنفاني يخاطب طيف امرأة لا تسمع نداءاته الحارقة، والعلاقة التي استغرقت أزيد من خمس سنوات، كان وقودها كما تفصح الرسائل، جمال غادة وسحرها وذكاء عقلها. هل كان التواصل بينهما يخلو من جدل ينفذ بين مراسيل الشوق، وبيروت كما يفترض في ذلك الوقت تعج بمحرضات الصراع الفكري والأدبي، او ان أدب الستينيات هو هكذا متورط حتى في الحب بلغة الحماس؟ لو لم تضع غادة السمان صورا فوتغرافية للرسائل، لتخيلناها تكتب لنفسها، ولكن تلك النصوص في النهاية تشير الى أن الكاتبة هي ما يراها الناس حتى اقربهم إليها من خلال صور بطلاتها. نحن هنا أمام سحر وفاعلية الكتابة. ومع ان نساء غسان كنفاني في اعماله يختلفن عن صورة المرأة التي يراسلها، بيد أن الرسائل التي لا يشك أحد في صحتها، ربما تثير فينا فضول معرفة المهمة التي أوكلها غسان لنفسه وعاش فيها منشطرا بين ادب نضالي عدّ فيه من بين أهم الكتاب الفلسطينين، وآخر لا يشبهه، هو في أحسن حالاته أحد سوانح الحياة البيروتية الستينية التي كانت تزدهر بالحب وتعد نفسها للحرب.