ثمة سهرات فنية تنتهي حين يغادر المشاهد مكان العرض، إذ لا تفتح تلك الأمسيات الشهية على طرح أسئلة أو حتى التفكير إذا كنا سنذكرها يوماً أم لا. بيد أن الأمسية الممتعة التي استضافت فيها مهرجانات بيت الدين جان باتيست تيري وفيكتوريا شابلن، بدأت حين غادر الاثنان معاً المسرح، فاتحة نقاشاً واسعاً حول الفن العربي ومدى انتشاره، وما فيه من متعة. درجت العادة أن تستضيف غالبية المهرجانات حفلات غنائية أو مسرحيات استعراضية متناسية أن ألعاب الخفة والرشاقة والتهريج، هي أيضاً فنون ولها جمهورها ومحبّوها، وهذا ما تنبهت له مهرجانات بيت الدين هذه السنة وهي نقطة إيجابية تسجل لها في احتفالاتها بمرور 25 سنة على تأسيس المهرجان. في العرض، يطل جان باتيست «أبو الحقائب» من خلف ستارة سوداء، يخرج ما في جعبته من ألعاب وطيور، يُحوّل حبلاً الى قطعة قماش، وكرة صوف الى أرنب. باتيست لا يستغبي الجمهور، فبعد كل حركة يعطي تلميحاً للطريقة التي يعمل بها. خفة ظله ورشاقته وقربه من الجمهور تساعده على إضحاك الجمهور خصوصاً الأطفال. في المقابل تتميز فيكتوريا شابلن رابع أبناء أوانا وشارلي شابلن، بطراوة جسدها وقدرتها على تدويره كيفما أرادت. شابلن المولودة في مدينة سانتا مونيكا الأميركية، غادرتها برفقة عائلتها هرباً من حملة سياسية شنّها السيناتور ماكارثي، لتحطَّ رحالها في سويسرا حيث تعلّمت الرقص والموسيقى الكلاسيكيّة. تحاول شابلن قدر الإمكان أن لا تستعرض مهارتها في ألعاب الحركة والخفة، بل تعمل على فكرة. تدخل بأزياء جميلة وغريبة في الوقت ذاته، تخلع سترة ومن ثم قميصاً لتحولهما في ما بعد الى وجه حصان غاضب، وتُكوّر جسدها لتصبح فارسة تقود عربة يجرها حصان هائج. الأزياء في عمل شابلن مهمة جداً، فمن خلالها ترسم أفكاراً وتنفذها، على عكس أزياء جان باتيست المضحكة والمزركشة. التقى جان باتيست تيري المولود في باريس بفيكتوريا شابلن عام 1969، وأنتجا معاً ثلاثة عروض خلال ثلاثين سنة هي le Cirque Bonjour، le Cirque imaginaire، وle Cirque invisible. ألهب العرض حماسة الجماهير حيثما حلّ من نيويورك إلى طوكيو فبرشلونة وكوبنهاغن واليوم في بيت الدين. فجان باتيست تيري ممثل كوميدي سابق عمل مع بيتر بروك وفيديريكو فيلين، وفيكتوريا شابلن إنهما يحتلّان الساحة كإعصار من حركات وتحرّكات تحوليّة سورياليّة. فهو المهرّج المخادع وهي المرأة الطير التي تحلّق فوق المسرح لتخلق في إبداع الأزياء وبخبطة جناح عالماً من المستحيل. فيزدحم المسرح بحقائب البهلوان والأكسسوارات والمشاهد واللوحات الزخرفيّة، وتفيض منه الثقافة كلّ الثقافة الكلاسيكيّة المتينة والعميقة جذورها. بعد عرض كهذا، يتساءل المرء، هل الفن في العالم العربي هو فقط أغان وموسيقى ومسرح وفن تشكيلي؟ لمَ لا تنتشر هذه العروض في بلادنا؟ ولمَ لا يحترفها أبناء الفن؟ أم أننا كعرب لسنا رشيقين كفاية؟ لا ننكر أن الفن العربي قدم العديد من المبدعين على الصعيد الفني ولكنهم انحصروا في مجالات محددة كالموسيقى والغناء والتأليف والتلحين والرقص والإخراج السينمائي. ما نريده أن نشهد عروض خفة ورشاقة عربية، علّنا نُعوّض بعضاً مما يصيبنا من انحدار في غالبية أغانينا العربية.