لم تشر دار الجمل ان كانت رواية «الجبل السحري» للكاتب الألماني الكبير توماس مان ترجمت الى العربية من الألمانية أم من لغة وسيطة، ومع ذلك تبقى ترجمة هذه الرواية البديعة حدثاً أدبياً كبيراً فهي حقاً كما وصفت قمة الأدب الألماني، علماً ان ترجمتين للرواية نفذتا، الأولى عن الألمانية لمحمود ابراهيم الدسوقي، والثانية عن الفرنسية لسامي الجندي. هنا مقدمة الترجمة التي أنجزها الكاتب العراقي علي عبد الأمير صالح. يُعد الروائي والقاص الألماني توماس مان واحداً من أبرز أعلام الأدب الألماني في القرن العشرين. ولد في مدينة لوبيك عام 1875 وتوفي عام 1955. كان توماس مان فناناً عبقرياً في اللغة، يعطي البرهان على أن في الإمكان استخدام اللغة للتغلب على الأمور ومن ثم لتوضيحها. وتتجلى عبقرية توماس مان في تعابيره الرصينة المصاغة في جمل هادئة متينة البنيان، دقيقة التكوين، بكلمات هادفة مختارة بعناية فائقة، لا تجد لأي منها، آثاراً سلبية جانبية، ليست من أصل المقصود بها، ومن فوقها غلالة من روح التهكم، لا تكاد تراها، إنما تحس بوجودها احساس الواثق، مثل طبقة رقيقة جداً من مسحوق السكر الناعم يتذوقه لسانك مع الحلوى... من دون أن تبصره عينك فوقها... ولا غرابة في أن يعده الكاتب الألماني فريدريك نوربيرغ «أحد الكتّاب الساخرين العمالقة الذين عرفهم تاريخ الأدب الألماني كله». قضى توماس مان حياته مهتماً بالمشاكل البشرية، وباحثاً عن معانٍ انسانية... وقد لقيت كتاباته صدى في نفوس المستنيرين المؤمنين بمسؤولية الكلمة المكتوبة. ان أدب توماس مان غزير عميق يبعث في نفس قارئه تأملات وتساؤلات كثيرة، ويثير في نفس مَن يود الكتابة عنه كثيراً من الموضوعات التي يجب أن يتناولها. قال مان في إحد خطبه: «أنا لا أؤمن بتلك النظرية التي لا ترى في الفن إلا متعة نزجي به وقت فراغنا». ثم يضيف قائلاً: وإذا كانت الإنسانية ترغب رغبة أكيدة في الاحتفاظ بحريتها وكرامتها، فإن عليها ألا تقف موقفاً محايداً من المشاكل الاجتماعية والسياسية، والفنان هو أكثر البشر انسانية، ولهذا فإن من واجبه أن يرفع صوته عالياً مدافعاً عنها، هاباً لنصرتها، عندما تهددها قوى الجهل والبطش والبربرية». يعد بعضهم عناية مان الكبرى بالشكل والأسلوب والأداء الفني ضرباً من الكتابة الكلاسيكية الرائعة في دقة بنيانها وروعة أسلوبها. وليس مرد هذه العناية هرب الفنان من المشكلات التي تجابهه، بل تعتمد في الدرجة الأولى على شعور أخلاقي يحدو بالفنان نحو طلب الكمال في الكتابة والدقة في التعبير عن أفكاره. ان الكتابة لدى توماس مان، كما يعكسها أبطاله وكتاباته نفسها، هي التزام خلقي قبل كل شيء. إن أبطال توماس مان الشبان كلهم يعشقون الموسيقى والأدب ويشعرون، نتيجة لذلك، بضيق البيئة التي ينمون فيها، فهم لذلك يأملون في الخروج منها والهرب. ولكنهم جميعاً يشعرون بحنين دائم. وان هذه النفوس الفتية كلها لتمتاز بأنها نفوس معقدة يضنيها قلق ميتافيزيقي، بينما نرى أن المجتمع يفرض عليها العزلة والوحدة. ان هناك هوة تفصل بين هذه النفوس وبين الناس العاديين، السعيدين بالحياة، ولكن حنيناً كثيفاً يدفع بهم الى أن يشاركوا الناس أفراحهم وأعيادهم. ومن هنا كان تشاؤمهم وبرمهم بالحياة. ذلك لأن ألمهم الكبير ليس نتيجة خطيئة فردية بل مرده الى البنيان العام للوضع البشري. تأثر توماس مان بشوبنهاور ونيتشه أعمق التأثر وكان لهما دور كبير جداً في تكوينه الفكري والثقافي. فلقد تبنى فلسفة متشائمة ترى أن الحياة رهيبة وان العالم سيئ، وتتغنى بالموت وبسحر العدم. كما أن حب توماس مان للموسيقى نتيجة تأثره واعجابه بالموسيقار الكبير فاغنر قد جعل معظم رواياته تعنى بالموسيقى والموسيقيين. كما أن معظم أبطاله أناس يفكرون ويطيلون التفكير في شتى المشاكل التي تُطرح أمامهم وتمتلئ كل روايات مان بهذه الحوارات الطويلة العميقة التي تدور بين الأبطال وتمس أعمق المشاكل الانسانية والفكرية. مُنح توماس مان عام 1919 درجة الدكتوراه الفخرية في الفلسفة من جامعة بون، وحصل عام 1929 على جائزة نوبل للآداب. كما مُنح عام 1935 مع ألبرت آينشتاين درجة الدكتوراه الفخرية من جامعة هارفرد. كان توماس مان ابناً لأحد أعضاء مجلس شيوخ مدينة لوبيك. وفي ذلك الجو البورجوازي الراقي نشأ... فرسم بعض شخصياته وبيئته في رواية «عائلة برودنبروك». واشتغل وهو ابن الثامنة عشرة في مكتب شركة للتأمين ضد الحرائق، وأصبح فيما بعد صحافياً. وما إن بلغ الثانية والعشرين بعد عام 1897، حتى قام برحلة الى ايطاليا، فبدأ بكتابة «عائلة برودنبروك» أثناءها، وجمع فيها العديد من الصور الواقعية من بيئة أسرته نفسها. هاجر توماس مان عام 1933 من بلده، بعد أن سيطرت النازية على سدة الحكم في ألمانيا، فعاش خمس سنوات في سويسرا أولاً ثم انتقل الى الولاياتالمتحدة الأميركية... ثم عاد الى أوروبا عام 1952 وعاش في سويسرا، ولكنه لم ينقطع عن زيارة جمهورية ألمانيا الاتحادية. من قصصه ورواياته المهمة: «الموت في البندقية»، «الدكتور فاوستوس»، «لوته في فايمار»، «يوسف وإخوته» (بأربعة أجزاء)، «طونيو كروجر»، «البطة السوداء»، «فيلكس كرول»، «ماريو والساحر»، فضلاً عن «آل برودنبروك» و «الجبل السحري». ان روايات مان وقصصه، حالها حال الفنون المعاصرة الجيدة، لم يخطط لها أن تخاطب قوانا العقلية مباشرة أو حاجاتنا الغريزية من أجل اعطاء أحكام أخلاقية، لقد خُطط لها أن تخاطب ذكاءنا وتحسسنا بالتناقض الانساني الظاهري. فبدون هذه المزايا من المحتمل ألا نسيء قراءة أعمال مان بحسب، بل القسم الأكبر من الأدب المعاصر الصادق. ان المقاطع التي اشتهرت من «الجبل السحري» حول جو المصح الاستشفائي فيه، ومدى الصدق في تصويره والتعبير عنه، لم يكن من باب المصادفة ولا الخيال، بل كان نموذجه الواقعي، عندما كتب هو عن مصح في «دافو» بسويسرا، أمضت زوجته كاتيا فيه بعض الوقت، بسبب اصابة مرضية خفيفة في رئتيها آنذاك. لقد اكتسب توماس مان هناك، انطباعات عن الجو والبيئة، انعكست من بعد الى أقصى درجات التفصيل والدقة في كتابه. قال الناقد الأدبي المعروف مارسيل رايش - رانيكي عن رواية «الجبل السحري» التي نشرها توماس مان بعد نحو ربع قرن من نشر «آل برودنبروك»: «انها قمة لم يصل اليها أحد من قبل في تاريخ الأدب والفكر والثقافة بألمانيا. وذلك ما تكلم به الكثيرون هنا وهناك في العالم. فقد نجح مان فعلاً في أن يجعل هذه الحقيقة تذيع في العالم لتصل الى بلده من جديد».