تسع سنوات تقريبا على غزو العراق على أيدي جيوش الإمبراطوريتين الأمريكية والبريطانية! وعلى حرب تحرير العراق! وتخليص العالم من الدكتاتور الهتلري، وتجريده من أسلحة الدمار الشامل! ومن أجل نشر "الديمقراطية وقيم الحرية وحقوق الإنسان"...!!! وبعد أن اتفق الطرفان، الأمريكي والعراقي، على خاتمة الاحتلال الأمريكي- من وجهة نظرهما- بانسحاب آخر الجنود الأمريكيين من العراق مع نهاية الشهر الجاري، ليغدو العراق حرا مستقلا سيدا!! فإن الاسئلة الكبيرة الاستراتيجية تبقى في الفكر والذاكرة العراقية والعربية! والحقائق الكبيرة المرعبة الباقية في المشهد العراقي تشرح لنا ما جرى وما يجري.. وتبدأ الحكاية العراقية من تلك الشهادة/ المعلومة بالغة الأهمية الآتية من مصادر الحزب الديمقراطي الأمريكي، التي تتحدث في تقرير قدم للكونغرس عن "أن الرئيس بوش وأربعة من كبار مستشاريه/ أركانه أدلوا معا بإجمالي 237 بيانا مضللا حول التهديد الذي يمثله العراق". واستنادا إلى هذه الشهادة، وغيرها زخم هائل من الشهادات الأخرى، يمكننا أن نضع خطوطا مشددة تحت أهم استخلاص مترتب في هذا الصدد: أن هذه الحرب الاستعمارية العدوانية كانت من بداياتها وعبر كافة مراحلها، وصولا إلى وقائعها ومعطياتها وتداعياتها وآفاقها الراهنة والمستقبلية، عبارة عن حرب خداع وتضليل شامل للعالم كله، حرب مدججة بكم هائل من الأكاذيب والذرائع المفبركة الملفقة التي لم يسبق أن شهد التاريخ مثيلا لها؛ كما هي في الوقت ذاته حرب استعمارية، بل هي أعتى وأشرس حرب استعمارية تقودها إمبراطورية الإرهاب والشر في العالم. ولذلك إن كان لنا أن نتوقف اليوم أمام خاتمة الاحتلال المزعومة فإننا نتوقف أمام الحقائق الكبيرة التالية- التي كنا أشرنا لها في مقالات سابقة- ونستحضرها اليوم بالمناسبة للتذكير، كي لا ننسى: أولا: إن الحرب العدوانية الاستعمارية الأمريكية جاءت أولا وقبل كل شيء في إطار مخطط شرق أوسطي لم يعد سرا، يهدف إلى النيل من مقومات الوجود والوحدة والقوة للأمة والدول العربية من جهة، وإلى تكريس الأهداف والمصالح الاستراتيجية الاستعمارية في المنطقة، من جهة ثانية. ثانيا: إن هذه الحرب كانت وما تزال في الصميم والنتائج والتداعيات حربا صهيونية أولا، ثم حربا أمريكية ثانيا، حيث إن الدولة الصهيونية هي الرابح الأكبر من وراء الحرب. ثالثا: إن قصة أسلحة الدمار الشامل العراقية من ألفها إلى يائها كانت وما تزال أكذوبة كبيرة وذريعة باطلة، حيث إن هذه الأسلحة المزعومة ليس لها أساس من الصحة أو الوجود أو التهديد حتى وفق جملة من الاعترافات الأمريكية نفسها، لعل من أبرزها ما أعلنه كبير مفتشي الأسلحة التابعين للأمم المتحدة هانز بليكس حيث قال: "إن الحرب على العراق تم التخطيط لها مسبقا منذ زمن طويل، وإن أسلحة الدمار الشامل كانت ثانوية.. وإن وثائق تبرير الحرب كانت ملفقة"، ليصل بليكس نفسه إلى ذروة الغضب من الكذب الأمريكي، حيث قال مؤخرا: "كفى.. لا نريد وباء جديدا من التلفيق". رابعا: إن كافة شعارات وذرائع التحرير وحقوق الإنسان وحرية الشعب العراقي ونشر الديمقراطية في الشرق الأوسط وغيرها، هي أيضا خداعية مفبركة وظفت وما تزال للتغطية على الأهداف الحقيقية للعدوان، وعلى الفظائع والجرائم التي اقترفت على مدار الساعة ضد العراق الوطن والشعب والحضارة والتاريخ. خامسا: إن الدور والحضور الصهيوني كان قائما وواسعا وفعالا في كافة تفاصيل الحرب على العراق وصولا إلى اللحظة الراهنة.سادسا: إن المخطط الأمريكي الصهيوني يربط بالأساس بين الحالتين العراقية والفلسطينية، لصالح الدولة الصهيونية.سابعا: إن قصة "الإرهاب الدولي" التي أخذت ترتدي- حسب المزاج والمقاييس الأمريكية والصهيونية- تارة زيا إسلاميا، وطورا زيا عربيا، وعلى نحو خاص زيا فلسطينيا، إنما هي أيضا قصة وسيناريو معدان سلفا مع سبق النوايا الإجرامية. فقد تبين عبر الأحداث والوقائع أن التاريخ البشري لم يسجل أبدا مذابح جماعية وجرائم حرب تفوق كل أوصاف البشاعة والإجرامية، وتستبيح كافة المواثيق والقوانين والأعراف والأخلاق الدولية والبشرية، كتلك التي تقترفها وتواصلها دولة الاحتلال الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني من جهة، وكتلك التي تقترفها أيضا قوات الغزو الأمريكي في العراق. ثامنا: ولعل من أخطر الانتهاكات الأمريكية في العراق، الحملات الحربية المتواصلة ضد كل وسائل الإعلام المختلفة، بهدف قمعها وكبحها واعتقالها بغية اغتيال الحقيقة.. وبغية التعتيم المبرمج على الجرائم البشعة التي تقترف ضد الوطن العراقي وأهله. وفي هذا الصدد قال الكاتب والمفكر الأمريكي المناهض للحرب "ناعوم تشومسكي": إن الرؤية الإعلامية الأمريكية تسعى إلى اختلاق وتزييف الوقائع والحقائق، وتسعى على نحو خاص إلى تزييف التاريخ". تاسعا: إن جملة الحقائق المشار إليها أعلاه، وغيرها أيضا هناك ربما عشرات الحقائق الصغيرة الأخرى، تقودنا في المحصلة إلى الحقيقة الأكبر والأخطر وهي: أن هناك ثلاث إمبراطوريات عظمى هي بالضبط وبالتحديد وبالإجماع الدولي إلى حد كبير: إمبراطوريات الإرهاب الدولي والحروب المدججة بالأكاذيب والأضاليل التي تقلب الحقائق رأسا على عقب وتحول الحق إلى باطل والباطل إلى حق.. وهي في الوقت ذاته الإمبراطوريات التي تقترف جرائم حرب شاملة مخططة مبيتة مع سبق الإرادة والقرار والإصرار ضد أمتنا وشعوبنا وأوطاننا وضد أهلنا في العراق وفلسطين على نحو حصري، وربما يكون الآتي أوسع وأشمل وأخطر وأشد إرهابا وإجرامية ودموية ما لم تستيقظ وتنهض الامة العربية في مواجهتهم. إننا اليوم أمام الولاياتالمتحدة العظمى، وأمام بريطانيا العظمى، وأمام "إسرائيل العظمى". ثلاث إمبراطوريات تنتهك كافة القوانين والمواثيق والأعراف والأخلاق الدولية... ثلاث إمبراطوريات هي التي تستبيح كل الأعراف والحرمات الدولية والبشرية، وهي الوحيدة الخارجة على القوانين الدولية بامتياز لم تشهده دولة أخرى عبر التاريخ..؟! لقد تميزت حروب هذه الإمبراطوريات في فلسطين والعراق والمنطقة بحملات متصلة من القصف المركز والثقيل والمتواصل والطافح بالأكاذيب والذرائع المفبركة زورا وبهتانا وظلما وطغيانا، والرامية إلى تدمير وتغييب الحقائق وتكريس الأكاذيب على أنقاضها، لتتحول الدولة الصهيونية هكذا من دولة احتلال واغتصاب وإرهاب إلى دولة شرعية طبيعية ديمقراطية من حقها الدفاع عن نفسها أمام "الإرهاب الفلسطيني والعربي والإسلامي"، ولتتحول الحرب العدوانية التدميرية الإجرامية ضد الوطن والشعب العراقي إلى حرب تحرير وحرية وديمقراطية واستقلال- تصوروا..!!! عاشرا: ولعل هذه "الحرب التحريرية" تقاس استراتيجيا بحصادها على مستوى العراق والشعب العراقي ومستقبل الدولة العراقية، وفي ذلك المعطيات حول الدمار والتدمير والتخريب والمجازر الجماعية مرعبة.حادي عشر: وربما تكون الحقيقة الحادية عشرة الكبيرة هي الأخطر والأشد وطأة علينا هي الأوضاع والأدوار العربية في المشهد برمته.. فرغم الحقيقة الساطعة عربيا فإننا كأمة واحدة أمام مخطط ثلاثي يستهدف ضرب وتفكيك وإلغاء الأمة ودولها القوية.. وإعادة تركيب وصياغة مشهدها السياسي، بل وبناها الثقافية والتربوية والحضارية والتراثية، بما يكرس الأهداف والمصالح الاستراتيجية لهم.. إلا أننا ما زلنا نفتقر.. بل ما زالت دولنا الكبيرة والصغيرة منها تفتقر إلى الإرادة السياسية.. وإلى الخطاب السياسي والإعلامي، بل إنها باتت بلا وزن أو فعل أو حضور.. وأصبحت مجردة- إراديا إلى حد كبير- من القدرة حتى على الدفاع عن النفس..! فمن يتحمل المسؤولية القومية العربية..؟! ومن يسائل ويحاسب ويغير..؟! ومن ينهض ويستنهض الأمة لترتقي إلى مستوى الحدث والتهديد والمسؤولية القومية والتاريخية..؟! نستبشر خيرا ونستمد تفاؤلا من الثورات العربية ومنها المصرية على نحو حصري، التي فاجأت وأقلقت الولاياتالمتحدة و"إسرائيل" وغيرهما... ونستمد تفاؤلا من حقيقة تداعيات الثورات على معادلات وموازين المنطقة؛ ومن القلق البادي في العيون الإسرائيلية.. فعين إسرائيلية على الجبهة الجنوبية تبث قلقا وارتباكا وحسابات مستقبلية.. والعين الأخرى على الجبهة الشمالية تترصد وتتربص وتتابع التطورات والموازين والتهديدات المقلقة!!.