- الرأي - خلود النبهان - جازان : من جازان، حيث تتشابك حكايات الأرض مع أنفاس البحر، يقف الأستاذ يحيى الأمير شاهداً حياً على سيرة التراث، عاشقاً لجذوره، متأملاً في ألوانها وتفاصيلها، ناقلاً شغفه للأجيال القادمة. لم يكن ارتباطه بالثقافة وليد الصدفة، بل هو امتداد طبيعي لمسيرة طويلة بدأت منذ الطفولة، حيث استمد من أسرته قيم الترابط، واستلهم من والده – رحمه الله – عشق القراءة، ليصبح الكتاب رفيق دربه، والنصوص نافذته إلى العالم. البدايات.. طفولة مُشبعة بالهوية يقول الأستاذ يحيى الأمير عن ذكرياته الأولى: "المشاهد الأولى التي شكلت وعيي الثقافي كثيرة، أبرزها كانت اللحمة الأسرية وصلة الرحم، حيث كنا نشهد حياة الآباء اليومية ونتعلم منهم الكثير. أما الذكرى التي لا تزال تضيء مسيرتي حتى اليوم، فهي حب القراءة الذي اكتسبته من والدي رحمه الله. فقد كان الكتاب دائماً حاضراً في منزلنا، يفتح لنا آفاقاً تتجاوز حدود المكان والزمان." منذ نعومة أظافره، كان الطفل الذي يتجول بين صفحات الكتب أكثر من تجوله في الأزقة، ينهل من الحروف كما ينهل من ينابيع القرية. ومع مرور الأيام، أصبح هذا الشغف بوابةً لاكتشاف مسؤولية أكبر تجاه الثقافة والتراث، مسؤولية لم تأتِ في لحظة واحدة، بل تبلورت عبر سنوات من التفاعل العميق مع البيئة المحيطة. لحظة التحول.. عندما يصبح الشغف رسالة ليس لكل إنسان لحظة تحول واضحة، لكنها تأتي غالباً في هيئة مشهد أو موقف عابر يضيء الداخل. بالنسبة للأستاذ يحيى، كانت تلك اللحظة عندما كان يشاهد آباءه وأمهاته في مواسم الحصاد. مشهد الأيدي التي تعمل بانسجام، والأغاني الشعبية التي تملأ الهواء، كان كافياً ليشعل في داخله السؤال: كيف يمكن الحفاظ على هذه الموروثات؟ كيف لا تندثر مع تبدل الزمن؟ يقول: "عندما كنت أرى آباءنا وأمهاتنا في مواسم الحصاد، كنت أشعر بشعلة من الشغف تنبض في داخلي. كان ذلك المشهد الذي تتشابك فيه الأيدي العاملة والقلوب المخلصة هو نقطة التحول التي جعلتني أدرك أهمية الحفاظ على هذه العادات وتوريثها للأجيال القادمة." جازان.. نسيج الطبيعة والتراث تُعرف جازان بتنوعها الطبيعي، حيث الجبال تعانق البحر، والسواحل تروي حكايات الصيادين، والوديان تحفظ أسرار المزارعين. هذا التنوع لم يكن مجرد مشهد بصري، بل تجربة معيشية أثرت في تكوينه الثقافي. يقول الأمير: "وجدنا أنفسنا وسط هذا التنوع الغني تلاميذ بين الطبيعة، وكل يوم نتعلم ونكتشف الجديد. جازان ليست مجرد مكان، بل هي مدرسة تُعلّمنا كيف نكون أبناء الأرض، ننهل من تراثها، ونعيش تفاصيلها بكل حب." اللهجات.. نبض الهوية وثقافة تُحكى تشكّل اللهجات المحلية ركيزة أساسية في حفظ الهوية، فهي ليست مجرد وسيلة تواصل، بل وعاء يحمل روح المكان، وصدى الأجيال السابقة. يؤكد الأستاذ يحيى على هذا بقوله: "لقد توارثنا هذه اللهجات وعشناها، ونحاول نقلها كما هي. نحن لا نحفظ كلمات بقدر ما نحفظ روح المكان من خلالها." ولأن الثقافة ليست فقط في الكلمات، بل أيضاً في اللقاءات والمنتديات، فقد ساهم "منتدى جازان ثقافة وأدب" في إثراء المشهد الثقافي وتعزيز الوعي بأهمية الأدب والتراث. يقول عنه الأمير: "يضم المنتدى عدداً كبيراً من الأدباء والمثقفين والشعراء والكتاب وعلماء الدين من شتى محافظات المنطقة، مما ساهم في إبراز التنوع الثقافي والمعرفي الذي تتميز به جازان." بين الأصالة والمعاصرة.. جسر نحو المستقبل التحدي الحقيقي لأي مشروع ثقافي هو قدرته على الموازنة بين الأصالة والمعاصرة. كيف نحفظ القديم دون أن نجعل منه سجين الماضي؟ وكيف نعيش الحاضر دون أن ننسى جذورنا؟ يرى الأستاذ يحيى أن الحل يكمن في الوعي العميق بالقيمة الحقيقية للتراث، حيث يقول: "نحاول أن نوفق بين الماضي والحاضر، فالحاضر نعيشه، والماضي نستعيده. التراث ليس مجرد محفوظات، بل هو تجربة تُعاد صياغتها بلغة العصر." الزراعة وبناء المنازل الشعبية.. إرث يجب أن يعود سألت صحيفة " الرأي " الاستاذ ؛ يحيى الأمير فيما: "لو كان بإمكانك إحياء تقليد ثقافي أو تراثي قديم ليصبح جزءًا من حياة المجتمع اليوم، فما الذي ستختاره؟ ولماذا؟" أجاب : "سأختار الزراعة وبناء المنازل الشعبية، لأن الجيل الحاضر يجهل الكثير عن أدوات الزراعة وأساليبها، كما يجهل كيفية بناء المنازل الشعبية وأسرارها المعمارية. هذان العنصران ليسا مجرد تفاصيل قديمة، بل هما جزء من هويتنا التي يجب ألا تضيع وسط الحداثة." حفظ البيئات التراثية.. مسؤولية الجميع البيئة والتراث توأمان لا ينفصلان، حيث يحمل كل حجر في جازان ذاكرة أجيال متعاقبة. وعن كيفية الحفاظ على هذه البيئات التراثية، يقول: "هناك جهات مختصة تقوم بإحياء التراث والحفاظ عليه، وما نحن إلا جزء من أبناء الوطن نساهم بقلوبنا وعملنا في هذا المجال." إنجازات تُقاس بالأثر الإنجازات ليست بعددها، بل بمدى تأثيرها. ويعتبر الأستاذ يحيى أن محطة تأسيس "منتدى جازان ثقافة وأدب" من المحطات المهمة التي شعر فيها أن رسالته الثقافية وصلت مبتغاها. يقول: "ساهم المنتدى في جمع شريحة كبيرة من أبناء المنطقة بمختلف أجيالهم، مما خلق بيئة ثقافية غنية بالتفاعل والإبداع." رسالة للأجيال القادمة وحين سُئل عن الرسالة التي يود تركها للأجيال القادمة، قال بحكمة تُلخص سنوات من العطاء: "أوصيكم بتقوى الله جل وعلا، ثم طاعة ولاة الأمر، وحب هذا الوطن، والحفاظ على مقدراته. وشكر النعمة التي يعيشونها " ختاماً يحيى الأمير ليس مجرد اسم في سجل الثقافة الجازانية، بل هو رمز من رموز هذا الوطن و ذاكرة تمشي على الأرض، وقلب ينبض بحب التراث، وعقل يُعيد تشكيل الأصالة بلغة المستقبل. في كلماته صدى للحكايات القديمة، وفي رؤيته امتداد لجيل يحمل المشعل، إنه إبن جازان حكاية الأرض التي لا تبخل على محبيها بالدهشة والجمال.