في أمسيات ثقافية كثيرة وفي جامعات عريقة، كان الراحل سلمان ناطور يروي الوجع الفلسطيني بلغتين (عربية وعبرية) لا غبار عليهما وبهدوء وثقة أمام جمهورين عربي ويهودي.. كان يروي أدق التفاصيل وأصغر الجزئيات عن تلك الحقبة الحالكة في تاريخ فلسطين.. أتذكر أنني رأيت دموعا حبيسة في عيون بعض النساء الأربعينيات في القاعة وأتذكر قيام أحد الكهول بمقاطعته قائلا: عزيزي سلمان نعم كانت حالة حرب لننسى الآن ما جرى ونفتح صفحة جديدة.. أتذكر أنه رد عليه بما يشبه هذا الكلام.. نحن نروي حكايتنا.. نكتب وجعنا الذي لن ينسى بعد التقاط أجزائه من أفواه الشيوخ وذكرياتهم.. ربما بعد عشرين سنة لن نجد أحدا عايش تلك الفترة لنستقي منه الذكريات كما وجدت أنا ذلك الشيخ من بلدة عيلوط.. الحكاية لن تشكِّل حاجزا أمام الحلمِ بالسلام.. في كل حرب هناك فظائع وجرائم إبادة وانتهاكات وحالات اغتصاب جماعي. كان سلمان يعرف أن الجزيئات الصغيرة توجع جدا.. خاصة حين يرويها الضحية وهو يحدِّق بعيني من كان سبب عذابه.. كأن يقف ياباني (مثلا) أمام جمهور أمريكي في جامعة أمريكية ليقول لهم: اسمحوا لي يا سادة.. مع احترامي لكم ولحضارتكم سأروي لكم بعض التفاصيل الصغيرة جدا عن تلك الأيام التي أعقبت رمي القنبلة الذرية على هيروشيما. أنحني لرحيل هذا الإنسان الفذ.. الروائي والكاتب الفلسطيني سلمان ناطور. سيذكر بأنه أحد رموز الأدب الفلسطيني وأحد حراس الذاكرة الفلسطينية الكبار. مثقف لبق. متواضع. ذكي وحساس يعرف ماذا يريد من اللغة وكيف يجيب على الأسئلة الصعبة بالعبارات السهلة الممتنعة. كان لي شرف لقائه منتصف الربيع الفائت في ندوة ثقافية عقدت في حيفا.. ربما لم يتسع اللقاء لجلسة مطلة على المدينةِ باخضرارها وبحرها أو لاحتساءِ فنجانينِ من القهوة ولكنه اتسع لكثيرٍ من المحبة والإعجاب والصداقة الحقيقية.. أهديته آخر دواويني الصادرة وحييته على صراحته وشجاعته النادرتين في الكتابة والحياة.. قلت له: لولاك لما كان هناك من يدون لنا النكبة بلغةٍ ساحرة وبسردٍ أخاذ.. وداعا أبا إياس. شاعر أردني