أستاذي تيموثي بيكر الذي أشرف على دراستي للماجستير والدكتوراة من الشخصيات التي مرت بي في حياتي ولا يمكن أن أنساها. عندما وصلنا أمريكا والدي وزوجتي وأنا نسحب في أيدينا ابنتنا سحر؛ كنا كالحجاج لا نكاد نعرف يميننا من شمالنا ومن حولنا هذا العالم الذي يصطخب بالحركة. كل شيء فيه كبير وضخم وسريع. والدي وزوجتي وطفلتي جميعهم معرفتهم باللغة الإنجليزية متساوية أو تكاد. استقر بنا المقام في مدينة بلتيمور والتحقت بكلية الصحة العامة بجامعة جونز هوبكنز. بعد أسبوعين تركنا الوالد لأنه لم يجد من يسامره، فأنا مشغول في جامعتي، وزوجتي مشغولة ببيتها وطفلتنا ذات السنة والنصف. بعد أيام أخذت زوجتي إلى المستشفى لعارض مرضي. اتصل بي المشرف علي الدكتور تيموثي بيكر، وسألني: ما بال زوجتك. قلت: عسى خير. قال: اتصل بي طبيبها ليخبرني أن لديها اكتئابا. قلت هي الوحدة وعدم التواصل. فنحن لا نعرف أحدا ولا أحد يعرفنا وأنا مشغول في دراستي. دلنا على امرأة تعلم الإنجليزية لزوجات الأجانب تطوعا، ثم امرأة أخرى وغيرها ثالثة، وبدأت حياتنا الاجتماعية تتغير إلى الأفضل. كان لأستاذي بيكر دور في توجهي العلمي. حتى اليوم الذي التحقت فيه بالجامعة كان اهتمامي منصبا على الأمراض المتوطنة، فوجهني للاهتمام بالصحة الدولية. وعلى مدى عام كامل كنت أجلس إليه مرة في كل أسبوع اقتبس من علمه وفضله. وعندما حان موعدي مع التحضير لرسالة الدكتوراه ذهبت إليه أطلب مشورته في اختيار موضوع الرسالة. وجهني إلى رسالة دكتوراه لأقرأها وأعود لمناقشته فيها. أمضيت أسبوعا أو يزيد في فحصها ودراستها وتلخيصها. عندما عدت إليه قال لي في منتهى البرود: هذا النوع من رسائل الدكتوراه لم نعد نقبله في الجامعة وتشاغل عني بأوراق بين يديه. حقدت عليه يومها كما لم أحقد على أحد، ذلك أن جعلني أمضي أسبوعا في دراسة رسالة لا تقبل مثلها الجامعة، ولكني حمدتها له فيما بعد، فقد علمني درسا في الحياة، أن التعلم ليس بالأمر السهل. ذهبت أسأل وأستقصي حتى علمت أن الرسالة وصفية والجامعة لم تعد تقبل إلا الرسائل التحليلية. أثار شجوني ودفعني إلى أن أكتب هذه الكلمات عن أستاذي بيكر شريط اليوتيوب الذي اطلعت عليه مؤخرا عن الحفل الموسيقي الذي أوصى أستاذي بأن يقام في ذكرى وفاته بدلا من إجراءات الدفن المعتادة. واستجابت الجامعة لوصيته فدعت مائتين أو يزيد من محبيه وعارفي فضله إلى حفل موسيقي أحيته فرقة بالتيمور للموسيقى الكلاسيكية. جاء بعضهم من أقاصي الأرض ليحتفوا بذكرى أستاذهم بيكر. في مقال آخر، سوف أحدثكم عن ذكرياتي مع أستاذي عندما جاء إلى المملكة ليشرف على بحثي الميداني لرسالة الدكتوراة.