في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، كنا نتداول في المجالس حكايات أسطورية عن أن أمريكا وروسيا تراقباننا كأشخاص وليس كدول وحسب، وأنهما قادرتان عبر الأقمار الصناعية معرفة تحركاتنا وسكناتنا وهمساتنا وحتى أرقام مقاسات ملابسنا الداخلية. هذه الحكايات الأسطورية كانت تدعمها تقارير إخبارية تبث بين الحين والآخر عن رصد هذه الأقمار لتحركات قوافل مسلحة أو أنشطة إرهابيين وغيرها، ما جعل أكثرنا يسلم بحقيقة أننا مراقبون حتى في غرف نومنا وداخل دورات المياه «أعزكم الله»، إلا أن هذه الأساطير بدأت تتهاوى مع دخول الألفية الثالثة، وبعد أن كان رصد زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن يشكل معضلة لأمريكا على مدى 10 سنوات، وما زال الكثير من المطلوبين لأكبر دولة في العالم غائبين عن أعين استخباراتها وأقمارها الصناعية التي باتت تزاحم النجوم في الفضاء الشاسع. ومنذ شهر مضى بدأت هذه الأسطورة في السقوط النهائي، إذا ما استثنينا جانب المؤامرة، وانهارت تماما بعد أن عجز العالم عن تحديد موقع الطائرة الماليزية التي اختفت قبل ما يزيد على الثلاثين يوما، ووقف العالم بتقنياته وأقماره وأجهزة استخباراته عاجزا عن تحديد موقعها أو حتى مصيرها الغامض!! طائرة ضخمة تقل أكثر من 273 راكبا تختفي هكذا، وبكل بساطة، فضحت العالم الذي ظل يتغنى بتفوقه التقني الهائل، أمر محير بالغ السذاجة والتعقيد في آن معا. هل اختطفت الطائرة؟ هل سقطت في المحيط الهندي؟ وهذان الاحتمالان كانا الأكثر منطقية خلال الشهر المنصرم، من بين احتمالات اختطاف الجن لها، أو اختطاف المهدي لها لغضبه على الماليزيين، ولا أعرف لماذا هو غاضب منهم في الأساس؟!، وأنها ربما تكون ذهبت إلى بعد رابع خارج المكان والزمان الذي نعيش فيه، أو أنها اختفت فيما يشبه مثلث برمودا، وتحليلات عجيبة أدلى كل بدلوه فيها على هواه. وظهرت فرضيات عديدة حول اختفاء الطائرة الماليزية الأكثر غموضا في التاريخ، تتبنى سيناريوهات تبدو في ظاهرها منطقية، منها أنه في وقت ما من أوائل مارس 2014، شق 8 خبراء و6 صناديق طريقهم إلى ماليزيا، وأبقوا على البضائع في السفارة تحت الحماية الدبلوماسية، وكان على متن تلك الرحلة 5 وكلاء استخبارات أمريكان وإسرائيليين على درجة عالية من التدريب العملياتي ومعلوماتي حول اختطاف الطائرات، ويعلمون أسرار طائرة بوينغ. و2 من «الإيرانيين» يحملون جوازات سفر مسروقة يمكن أن يكونوا بينهم، وأن عناصر الاستخبارات الأمريكية الإسرائيلية الخمسة سيطروا على الطائرة وأغلقوا جميع وسائل الإرسال ونظام الاتصالات الأخرى، غيرت الطائرة مسارها واتجهت غربا، وحلقت الطائرة مع ركابها الموتى واصطدمت جنوب المحيط الهندي، وجعلها تبدو وكأن وقودها نفد وسقطت في نهاية المطاف من دون وقود وتحطمت، ومن ثم إلقاء اللوم على قبطان الطائرة ومساعد الطيار. وفرضية أخرى تتبنى سيناريوها مغايرا، أن الطائرة الماليزية المفقودة موجودة في منطقة بالقرب من مدينة قندهار، وأن جميع ركاب الطائرة أحياء، لكنهم في حالة سيئة، وأنه تم تقسيمهم إلى مجموعات من 7 أشخاص. وتداول العالم فرضيات أخرى بأن الأسباب المحتملة لعدم التوصل إلى حطام الطائرة «بوينغ 777» هي أن تكون الطائرة قد حلقت تحت السيطرة وهي سليمة، ومن ثم غرقت بكاملها إلى أعماق المحيط، أو أن إعصارا مر في منطقة سقوط الطائرة ونثر الحطام فور بدء عمليات البحث عنها. وآخر التصريحات التي جاءت عقب انتهاء المدة المحددة لبطاريات الصندوقين الأسودين بيومين جاءت من رئيس الوزراء الأسترالي توني أبوت، أمس، أن مسؤولي البحث والإنقاذ في أستراليا واثقون من أنهم يعرفون الموقع التقريبي للصندوقين الأسودين للطائرة الماليزية المفقودة، وأنهم واثقون من معرفة موقع الصندوق الأسود في حدود بضعة كيلومترات، إلا أن الثقة في الموقع التقريبي للصندوق الأسود ليست بنفس ثقة انتشال حطام من على عمق نحو أربعة كيلومترات ونصف تحت البحر أو تحديد كل ما حدث على متن الطائرة في نهاية المطاف، بعد أن أضفت أحدث «ذبذبة» نوعا من المصداقية لأربع «ذبذبات» سابقة التقطها جهاز تابع للبحرية الأمريكية، ليناقضه أنجوس هيوستون رئيس فريق البحث الأسترالي قال في بيان في نفس يوم أمس أن تحليلا للبيانات الصوتية أكد أن الإشارة الأخيرة ليست على الأرجح من الصندوقين الأسودين للطائرة المفقودة. فهل اختفت الطائرة الماليزية بركابها للأبد؟! أم أنها ستظهر في قندهار يوما ما؟! الله أعلم، المهم أن هذه الطائرة وركابها دقوا المسمار الأخير في نعش أسطورة العالم التقني المتقدم القادر على مراقبتنا في أكثر أماكننا خصوصية. عيشوا الحياة واستمتعوا، لا أحد يراقبكم، إذا ما استثنينا بطبيعة الحال ما يروج عن أن الفيس بوك وتويتر ومواقع التواصل الأخرى، والواتس أب، والبلاكبيري ماسنجر، والتليجرام، وهوز ذير، وغيرها، إنما هي صنيعة استخبارات أمريكية أو إسرائيلية لمراقبتنا!!.