حين يتحدث الناس عن البخل والبخلاء، هم غالبا لا يرون سوى أن البخيل شخص يشح ببذل المال ليس للآخرين فحسب وانما حتى لنفسه وأهله، فهو محب لكنز المال، يجد سعادته في رؤية ماله يتراكم في خزائنه حتى وإن حرم نفسه أو غيره من متع كثيرة كان بامكانه الحصول عليها بانفاق شيء من ذلك المال المخزون. وهذا المفهوم للبخل الذي يحصره في كنز المال وكراهية انفاقه، يصرف أنظار الناس عن رؤية البخل في أمور أخرى غير المال، أمور قد تكون في بعض الأحيان أكثر أهمية من المال نفسه، وفي مقدمتها البخل في إبداء مشاعر الحب والتعاطف والرحمة، والبخل في بذل العبارات الرقيقة واللفظ اللين، والبخل في التسامح والتغاضي عن الإساءات، والبخل في مد يد العون لمن هو في حاجة إليه، وغيرها من الأمور التي هي في مجملها لا تكلف منفقها خسارة بل تمده في مقابلها بمكاسب معنوية لا ثمن لها. رغم أن البخل صفة كريهة، سواء كان في الماديات أو المعنويات، إلا أن الناس غالبا يكثرون من هجو البخل المادي ويغفلون عن غيره، فحين ألفوا الكتب عن أخبار البخلاء وحكاياتهم ونوادرهم ومن اشتهر منهم، اختصوا بذلك كله البخل في بذل المال ولا شيء غيره، وانشغلوا بتحليل اسباب البخل ودوافعه، وعده بعضهم مظهرا من مظاهر التشاؤم في الحياة، فقالوا إن البخل يتمثل فيه الخوف من الفقر والقلق على المستقبل لعدم الثقة بما تحمله الأيام من أحداث وتغيرات، وإن هذا التشاؤم المغلف للخوف من الفقر قد يكون منشأه معاناة الفاقة والحرمان في الطفولة. لكنهم لم يقولوا كلمة واحدة في تحليل أنواع البخل الأخرى ؟ فلم لم يتحدث عنها أحد ؟ واذا كان البخيل بماله يوصف بأنه متشائم قلق خائف من الفقر، فبماذا يمكن أن يوصف البخيل بمشاعره ؟ على أية حال، البخلاء أنفسهم لهم رأي مختلف، هم لا يرون في امساكهم المال بخلا، وانما حيطة وحسن تدبير، فهم يقولون: «لو أطعنا المساكين في أموالنا، كنا أسوأ حالا منهم»، وإن «امساكك ما بيدك، خير من طلبك ما بيد غيرك». ما يثير التساؤل، هو هل يوجد ارتباط بين البخل المادي والبخل المعنوي ؟ بمعنى هل من يبخل ببذل ماله هو أيضا يبخل ببذل عواطفه، فيحجم عن التعاون مع غيره وينفر من التعاطف مع الآخرين عندما يستدعي الموقف ذلك ؟ وإذا كان بعض الناس يرون في البخل دلالة على الثراء لأنه لا يوصف بالبخل إلا من يملك، فهل البخل في المعنويات هو ايضا دلالة على ثراء المشاعر وحيوية العواطف داخل النفس، لأن فاقد الشيء لا يعطيه ؟