البرد يلفح وجهي ويلامس أطرافي. أمتطي ناصية الشارع الممتد على أطراف مجرى السيل العملاق؛ أشرع وجهي للريح الخفيفة المعاكسة أواصل السير؛ أحدق في الزوايا ومواضع الأقدام. على الأرض تتناثر في الجانبين أصناف عديدة من أنواع الورود عديمة الرائحة. على الرصيف مغلف فارغ لمادة غذائية برزت عليه مرسومة بوضوح سلة قمامة ويدٍ تلقي بشيءٍ في تلك السلة. وغير بعيد عنه أدوس بقدمي علبة سجائر فارغة لنوع من ماركة رخيصة. ومجموعة من العمال يتحلقون في الزاوية المقبلة. عندما حاذيتهم لم يكترثوا لوجودي المنفرد ولا لمروري الباكر عند الساعة السادسة. أغذ السير أقلب بصري في الأنحاء. تصافحني عبارة (حسيبك للزمن ) مكتوبة بخط أسود تحتل جزءا من جدار طويل يرتفع في مستوى النظر وتجلله كآبة غامضة.. تنتهي العبارة عند حافة الرصيف مذيلة بتوقيع من كلمة واحدة (كسير) وبخط صغير زاحمته زاوية الرصيف. أعاد صاحب الخط الذي دونه ومضى كتابة التوقيع. وأضاف إليه كلمه(القلب). أقتربت من نهاية السور لمحت عبارة ( مقبرة قديمة) مكتوبة بذات اللون الذي كتب به الكسير كلماته ولكن بحروف أكثر وضوحا وفخامة وقد ابتعدت عنها بقية الكلمات والتواقيع وبقيت وحدها في مساحة نضيفة بين قوسين. أتخلص من رهبة المكان وأترك خلفي وحشته. أكاد أصل إلى الشارع الرئيسي. تخيفني حركة السيارات التي بدأت في تصاعد أفكر في كيفية العبور من الدوار كي أواصل سيري في نفس الإتجاه بمحاذاة المسيال. أتنفس مغتبطا وقد تجاوزت الدوار دون أن يقف لي احد أو يقدس وجودي كعابر وحيد . عند بداية الرصيف ترفرف ورقة مائلة إلى اللون الأزرق تقاوم في يأس حركة الرياح وتلتصق مسحوقة على الأرض وتبرز من بين آثار الأحذية التي انطبعت على صفحتها بخشونة حروف عربية مكتوبة بخط ركيك. لم أستطع تجاوز فضولي تلفَّت حولي وانحنيت ألتقطها بأطراف أصابعي. كانت بقايا لرسالة تمزق طرفاها العلوي والسفلي. وشرعت أفكك طلاسم حروفها دون أن أتوقف عن السير. تبينت سطرا واحدا لاتزال حروفه باينة كأثر لجرح قديم (أنا آسف كانت لحظة) ثم فراغ تمزق بفعل الحذاء وينتظم السطر بوضوح (وإذا لم تفعل) .قلَّبت الورقة التي توشك أن تتفتت في قبضة يدي لكثرة ما نالها من الدهس تحت أقدام العابرين فكانت تلتصق بها من الجهة الأخرى بقايا لورقة أكثر سماكة بها صورة نصفية لامرأة. وقد ذهبت غالب معالم الصورة وبقي منها موضع العينين شاهدة وشيئا يسيرا من تقاسيم وجهها. * من مجموعته القصصية (شيء من تقاسيم وجهها)