مدخل: ... بين الفينة والفينة، يدفعك الفضول القرائي، لمراودة بعض المنجزات الإبداعية التي تمنحك أفقًا تعالقيًا – حد الاندماج والتفاعل النصي – فتجد نفسك منساقًا نحو الانطلاق بعد الكمون، والتجلي بعد الخفاء، والتشيؤ بعد التروي والانزواء !! أقول ذلك، وبين يدي «شيئًا من تقاسيم وجهها» المجموعة القصصية الصادرة حديثًا عن نادي جدة الأدبي الثقافي 1423ه، لمبدعها «عبدالله ساعد». تصفحتها ذات ليل، فلم تعطي مفاتيحها.. وعاودت النظر إليها ذات صباح فأشغلتني / : مفرداتها.. وأبطال حكاياتها، ومسارات أحداثها، فكانت هذه المثاقفة، علَّ فيها «قطر الندى، وبل الصدى»!! *** (2) بين الليل والصباح.. الكمون والتجلي، تظهر القرية «فضاء نصيًا، ومحركًا مكانيًا يتنامى في جنبات هذه المجموعة القصصية، مما يجعلني – كناقد وقارئ – أصنف هذه المجموعة ضمن الخطاب القصصي الذي ينتمي إلى ما أسميته ذات قراءة نقدية (النص القروي (1) وعرفته إجرائيًا، بأنه النص الذي ينتمي للقرية موضوعًا، ومادةً، وأحداثًا، وأسلوبًا وتناولاً. أو هو النص (الخام) الأولي في صورته الحكائية والتي تنطلق من الواقع دون إضافات أسلوبية أو بلاغية، فيظل النص هو.. هو دون تدخلات لغوية / إبداعية، أوفاق بلاغية متجاوزة!! ومنذ البدء تتجلى السمات القروية، وفضاءاتها وقيمها وعاداتها وتقاليدها، فيقف القارئ على الكثير من ذلك، وعلى سبيل المثال نجد ما يلي: (القربة، الشملة، الجفر، السحارة، المداوي، الطاسة، الفانوس. فرقنا، البقشة، المسحاة، القازة، المحراث، الرشا، المزودة، الجنبية). هذا على مستوى المفردات الدالة على أشياء لا توجد إلا في القرية، ولا يستخدمها إلا القرويون، وهذا يعطينا – كقراء – أفقًا نقديًا يتبلور من خلاله المكان ودوره في السرد بحيث يصبح أساسًا في بناء العمل الإبداعي وموجهًا ومرشدًا للتعرف على فضاءات القرية وأحداثها وسيرورتها في النص القصصي. وبالتالي يعطي للنصوص التي بين أيدينا، بعدًا واقعيا ومجالاً سرديًا يتميز فيه السارد «عبدالله ساعد» في هذه المجموعة. كما نجد «القرية» على المستوى الحكائي / الشعبوي، فتشعر - كقارئ – أنك أمام «الحكواتي» الذي يقتعد دكة مرتفعة والناس حوله يستمعون، فيسرد عليهم – علوم الديرة – والقصص والحكايات الشعبية، ومن تلك الحكايات ما يلي: حكاية المداوي الذي يعالج الناس بالكي. حكاية الفلاح الذي يحرث الأرض ويبذر الزرع. حكاية المقبرة والجن والجبناء والخوافين. حكاية «فرقنا» السوبر ماركت المتنقل قديمًا!! حكاية الجد ووداع القرية مهاجرًا للمدينة!! كل هذه «الحكايات» ينقلها السارد «عبدالله ساعد» كما هي، لكنه «يفصحنها» - إذا صح التعبير- ويصوغها كتابة راقية يستمد فيها روح القرية وفضاءاتها الحيوية. كما نجد «القرية» على مستوى الشخصيات الكامنة في النص، والفاعلة في تلك الحكايات التي تشكل مضامين القصص التي تجمعها وتوحدها هذه المجموعة فنرى: شخصية الأم الحنونة العطوفة على الأب قبل الأبناء. شخصية المداوي / الطبيب الشعبي الذي يعالج المرضى بالكي . شخصية الوالد الفلاح / المزارع. شخصية «أبو عمامتين» / فرقنا / السوبر ماركت المتنقل. شخصية ابن القرية المهاجر نحو المدينة. والغريب هنا، أن هذه الشخصيات تفتقد دور البطولة، وإنما يجيء دورها عرضًا – في النص – فكأنها شخصيات هلامية ليس لها حضور فاعل، وليس لها دور كاشف وإنما يحركها القاص كيفما يشاء، ويختلق لها المواقف والأحداث. ولذلك فالقاص هنا، يحتكر البطولة لنفسه فهو البطل، وهو الراوي العليم. ولعل ما يكشف هذه المسألة هي ياء وتاء المتكلم، والأنا المتواجدة بكثرة، والضمائر الدالة على الراوي / القاص: لاحظت أنها اهتمت كثيرًا بالنظافة. ولكنني بغريزة الطفل أحسست بأنها تبكي. وتقدمت بخطى ثقيلة. وأنا أغالب مقدمات نوم متقطع. في الغد لكزني بطرف باكورته الخيزران. البرد يلفح وجهي ويلامس أطرافي.. لم يكن يستهويني كطفل.. يسيل لعابي.. التصق بجسد والدي كفرع لشجرة.. .. والشواهد أكثر من أن تحصى. على أن الجميل في هذه التجليات السردية هو قدرة الراوي / السارد على تشكيل الشخصيات وفق فضاء النص وتحولاته، وبالتالي فهو المحرك، والصانع، والمتحكم في هذه الشخصيات وفضاءاتها المكانية والزمانية. *** (3) وعبر الأقاصيص «الستة عشر» التي تحويها هذه المجموعة تتبدى جماليات الأسلوب واللغة، فرغم أنها تنتسب إلى «النص القروي» لكنها تأخذ في الحسبان رونقًا في اللغة، وجمالاً في الأسلوب وشاعرية في الجمل والعبارات، مما يضفى عليها هالة من البياض، وسندسًا من الشبكيات اللفظية التي تغري بالتناول النقدي!! ولعل إشارات طفيفة تغنى عن العبارات الكثيرة ، كشواهد وأمثلة لما نقول ونزعم: * «عند جدول الماء الذي يتوسط الطريق بين القرية والمزارع ويلتمع في تباشير النهار الأولى كعقد من اللجين»... ص- 18. * «وغلبني النوم فرأيت طاسة الماء وهي تطوف السماء وحبوب الذرة تصعد منها تباعًا فتستحيل في عتمة الليل إلى نجوم وكواكب».. ص- 20. * «استقر خيالها وسط الجدار الفقير يبث فيه تفاصيل خلقتها الفاتنة كوردة في قفر أجرد غنية الألوان فقيرة الرائحة».. ص- 21. * « البرد يلفح وجهي ويلامس أطرافي العارية. أمتطي ناصية الشارع الممتد على أطراف مجرى السيول العملاق. أشرع وجهي للريح.. أواصل السير.. أحدق في الزوايا».. ص- 25. * «قتلني الظمأ وجدت البئر ولم أجد الرشا ووجدت مرآة جدتي رفعتها في رفق حتى مستوى نظري مسحت عنها الغبار والتراب والصدى فوجدت في داخلها سؤالاً وصورة ؟ « ص- 82 . في هذه المقتبسات يتبدى جمال اللغة، ورعة الأسلوب وحرفنة الأديب القاص في الاختيار والاختصار والتكثيف والشاعرية وهذه مقومات لكل نص جميل. ولا تقف تلك الجماليات عند اللغة والأسلوب ولكنها نتجاوز إلى العناوين المختارة للقصص وتماهيها بين العناوين المفردة، والثنائية والثلاثية حسب الإحصاء التالي: المفردة (9) «الصورة – المقبرة – نافذة ..... إلخ الثنائية (6) «رائحة الجلد – طاسة الماء – وداعًا سهيل .... إلخ الثلاثية (1) «شيئًا من تقاسيم وجهها».. وهذه الاختبارات العنوانية – إذا صح التعبير – تعني قدرة السارد على التكثيف اللغوي، والإيجاز، واختيار الومضة التي تتحول إلى شفرة يتنامى النص من خلالها، فكل قصة تتلاءم مع عنوانها الذي اختاره القاص. ولعل عنوان المجموعة كلها «شيئًا من تقاسيم وجهها» قد مر بعدة مراحل داخل النصوص فنجده عنوانًا لقصة تحمل الرقم (4) في فهرس المحتويات.. ونجده يتكرر (5) مرات متفرقات في نصوص قصصية!! وهذا التشظي يعطيه الحق ليكون عنوانًا جامعًا وكليًا للمجموعة القصصية، وبالتالي اختيارًا مقصودًا من السارد «عبدالله ساعد»!!. *** خاتمة: ليس هذا كل شيء.. وإنما هي قراءة أولية، أعطيت فيها نفسي مساحة من التلذذ بالجمال اللغوي، والحكايات القروية التي أحس أني عشتها وعايشتها يوم كنت قرويًا في بني سعد ذات طفولة تفيض حبًا وعلمًا ومعرفة كلما تذكرتها وأنا في مدن الإسمنت والنيون والشوارع المشرعة انتظارًا للمطر!! --------- (1) راجع كتابنا الجديد: في آفاق النص السردي السعودي، ص 69-81 (تحت الطبع)