رغم خفوت حدة ظاهرة التسول في السنوات الأخيرة إلا أنها عادت بقوة إلى الميدان. وبعد أن كان التسول يقتصر سابقا على مواسم بعينها كرمضان والعمرة، أصبح اليوم على مدار العام، بعد أن أصبح يدار بواسطة عصابات منظمة تستغل براءة الأطفال وظروف أسرهم المادية فتتقاسم معهم (الغلة)، فيما تجازف بعض الأمهات وحتى الآباء بحياة أطفالهم باصطحابهم لساعات طوال وتحت أشعة الشمس الحارقة أو حتى مع نفحات الهواء البارد. واختلفت الأساليب والطرق، كما تختلف الأشكال والجنسيات، لكن يبقى الهدف واحدا.. «التسول» باستدرار العطف وتحريك المشاعر، فعندما تشاهد امرأة تجلس أمام أحد المحلات التجارية، أو تقف أمام إشارة مرورية، أو عند مخرج مواقف السيارات أو المساجد وهي تحمل طفلها، فإنك حتما سوف تتعاطف مع طفلها كثيرا، وتمد يدك إليها وأنت تنظر إلى الطفل، دون أن تنظر إلى هويتها. «عكاظ» رصدت انتشار العديد من المتسولين في شوارع جدة الحيوية وعند التقاطعات وإشارات المرور وأمام المساجد والمحال التجارية بما في ذلك النساء والأطفال من مختلف الجنسيات. الدخول بطرق ملتوية البداية في موقع على شارع الملك عبد الله، حيث كان صالح، يرتدي ثوبا قديما ويسابق اللحظات في الوقوف عند كل سيارة كانت تقف عند الإشارة المرورية التي كانت تشهد كثافة سير، مادا يديه طلبا للمال، وكان كلما وقف عند سيارة أماط بوجهه إلى الأرض في دلالة على ضعفه واحتياجه، لكن هذا الضعف كاد أن يتحول إلى قوة بدنية كادت أن تلامس جسدي وجسد زميلي المصور، حينما رأى الكاميرا تتجه نحوه، وأخذنا وقتا ونحن نحاول التحدث معه حتى وافق أخيرا. وقال: إنه من بلد مجاور، قدم منذ أشهر مع والده بصحبة مجموعة من أبناء جلدته بطريقة غير نظامية ورافقهم في رحلتهم التي امتدت إلى أيام بين الصحاري والتخفي، شقيقه الذي هو الآخر يمتهن التسول في موقع آخر، يحاولان من خلال تسولهما جمع ما يجود به عليهما الآخرين من مال يساعدهما في إرساله إلى أهلهما في وطنهما، وفيما كنا ننتظر مواصلة حواره معنا تطاير الشرر من عينه وقال: أفسدتم يومي واعرف أنكم ستكتبون عن وجودي هنا حتى يقبض علي، لكن لن أبقى في هذه المنطقة وسانتقل إلى مكان آخر يبقيني بعيدا عن الأعين. التسول بالأطفال الرضع وفي موقع آخر وتحديدا على شارع فلسطين، المتقاطع مع الأربعين، حيث كانت امرأتان من جنسية باكستانية تتناوبان على السيارات حاملتين بين يديهما طفلا، ففي كل مرة كانت إحداهما تحمل الطفل من أجل الوصول إلى هدفهما، وهو استدرار عطف الناس بهذا الطفل!! . وما أن رأتا الكاميرا حتى لاذتا بالفرار، وخلي الشارع من وجودهما. زوج الخالة لكنه لم يخلو من وجود متسول آخر، ولكن هذه المرة كانت طفلة لم يتجاوز عمرها الثانية عشرة سنة، كانت تنطلق بين السيارات كلما توقفت مع ضوء اللون الأحمر، والتي قالت إن اسمها شريفة، تسكن مع خالتها التي دفعتها للتسول معها، حيث يتولى زوج خالتها مع كل صباح توزيعهما في الشوارع للتسول، «ومع نهاية كل يوم يعود بنا إلى المنزل ويأخذ ما نحصل عليه من صدقات الناس، في بعض الأحيان احصل منه على اليسير لشراء بعض الحلوى، فأنا أحب خالتي وهي التي تنفق علي وتتولى رعايتي». سيطرة واضحة وفي شمال جدة وعلى كوبري المربع على طريق المدينة، وأمام الإشارة الضوئية، بدا عدد من المتسولين في سيطرة واضحة على المكان، بداية مع امرأة مسنة تحمل في يدها أوراق عبارة عن تقارير طبية، كانت تعرضها على من هم في داخل السيارات المتوقفة منها من كان يصد عنها وآخرون كانوا يتعاطفون معها، ويخرجون عبر نوافذ مركباتهم ما تجود به أنفسهم، وفي الناحية الثانية من الإشارة النازلة إلى طريق المدينة جنوبا كان شابان يتشاجران، وبالتحدث مع أحدهما قال: أنا من جنسية عربية وهذا أخي علي كان يريد أن يقتسم معي ما حصلت عليه من صدقة وإحسان، رغم أنني تعبت كثيرا حتى وصلت إلى جدة وكدت افقد حياتي وأنا اتنقل واتخفى عن الأعين خوفا من افتضاح أمري لأن دخولي كان بطريقة غير مشروعة، وقد تحملت كل ذلك التعب من أجل المال خاصة وأنني أعيش في بلدي في ظروف صعبة ولا يمكن تجاوزها إلا من خلال التسول في هذه البلاد المشهور عن أهلها كرمهم. ووصف عدد من المواطنين أن ظاهرة التسول المنتشرة في الشوارع وعند الإشارات المرورية، وأمام المحلات التجارية والمساجد، أنها صورة غير إيجابية وهي لا تعكس الصورة الحقيقية في المجتمع، مؤكدين على أهمية التعاون مع الجهات ذات العلاقة، وأهمية أن تتضافر الجهود بين المواطنين والجهات المعنية، بالطرق التي تؤدي إلى منع حالة التسول. ويشير خالد الزهراني «موظف في شركة خاصة»، وشامي الشاعري «موظف حكومي» إلى أن التسول في شوارع جدة وأماكن مختلفة منها، ليس جديدا بل بات منظره أمرا طبيعيا، فلا تكاد تقف أمام إشارة إلا وتجد عندها امرأة أو رجلا أو شابا أو طفلة، جميعهم موجودون من أجل التسول، والذين يزداد انتشارهم في شهر رمضان المبارك، وأيضا تتعدد أساليب حيلهم، فالوضع أصبح لا يطاق، ويحتاج إلى تدخل وقرارات حازمة وقوية للتصدي لظاهرة التسول ليس في جدة فقط وإنما في كل مناطق المملكة. ويضيف محمد الحارثي، هناك من يعترض طريقك، طالبا للمساعدة، بعد إطلاقه عبارات: يا أخي قدر الله وحدث كذا .. وآخر يقول: أنا من خارج المدينة وقطعت بي السبل وأريد فقط حق المشوار.. وغيرها من الطرق الملتوية، والتي تجعل الواحد منا يتعاطف معهم رغم أننا في كثير من الأحيان نعرف أنهم كاذبون في ادعاءاتهم. ويذكر سعود العتيبي: فوجئت عند خروجي من أحد المطاعم، على شارع فلسطين، بأحد المتسولين من الجنسية العربية ومعه زوجته وطفلهما الرضيع الذي كان يرقد داخل عربية، يعترضان طريقي ويطلبان المساعدة في علاج طفلهما ولم يبتعدا إلا بعد أن أخرجت لهما بعضا من المال رغم تأكدي أنهما غيرا صادقين. لكن كيف ينظر المختصون في علم النفس إلى هذه الظاهرة، الأخصائية النفسية والاجتماعية، في مركز إيواء المتسولين ريم محمد الدويري، أشارت إلى أن استخدام الأطفال في التسول أمر خطير ومؤسف، وأن عودتهم ثانية بعد ترحيلهم إلى دولهم يدل على أن هناك من يقف وراءهم، ودراستنا لحالاتهم أوضحت وجود أشخاص يتولون عودتهم إلى المملكة بعد اتفاقهم مع ذويهم نظير حصولهم على مبلغ من المال، موضحة أن ظاهرة التسول ليست بجديدة وموجودة في أغلب بلدان العالم وأغلبهم من غير المتعلمين الذين يسلكون طرق إثارة العاطفة والشفقة ويتقنون العديد من أساليب التسول والتي في أكثرها تميل إلى الحيل والخدع، مطالبة التركيز في الوصول إلى من خلف المتسولين ومعاقبته. وبدوره أكد رئيس مركز حي كيلو 14، هاشم بن سعيد الزهراني، أن انتشار المتسولين هذه الأيام، نتيجة التعاطف الذي يجدونه من الناس سواء في تقديم المال إليهم أو التستر عليهم وإيوائهم رغم أنهم لا يحملون أي أوراق نظامية، موضحا أن دورهم كمجالس أحياء يكون برصد مشاكل الحي وإيصال صوت السكان إلى المسؤولين، ومن تلك المشاكل التسول، حيث نرفع الأمر إلى المحافظة لتوجيه الجهات المعنية بملاحقة المتسولين والمخالفين لنظام العمل في داخل الحي. تنظيمات سرية للمتسولين فيما يقول عمدة حي السبيل الشرقي، خالد الذيابي، أن كثيرا من المتسولين خصوصا من الأطفال والنساء يستغلون المساجد لسؤال الناس واستعطافهم في ظاهرة انتشرت في المساجد، لافتا إلى أن هناك تنظيمات سرية بين المتسولين أنفسهم للانتشار في الشوارع والمناطق السكنية، وأن بعضهم خاصة المصابين بعاهات يستغلون هذه العاهات ويأتون إلى المملكة بتأشيرة عمرة أو حج مقصدهم التسول، بخلاف مجموعة تأتي بطرق غير مشروعة «التسلل» وجميعهم متى علمنا عن وجودهم رفعنا الأمر إلى الجهات المختصة للقبض عليهم ومحاسبتهم. وفي المقابل يشير مسؤول في أحد المكاتب العقارية نواف الشهري، إلى أنه لا يمكن تأجير أي منزل إلا بوجود الأوراق الثبوتية وهم حريصون على ذلك، ولكن الذي يحدث أن البعض قد يتستر عليهم رغم أنه من المفترض الإبلاغ عنهم. ويوضح المتحدث الرسمي لجوازات جدة، الرائد محمد الحسين، الدور الأمني لمكافحة هذه الظاهرة، بقوله هنالك حملات تشترك فيها عدة جهات الجوازات والشرطة ومكافحة التسول للتصدي للمتسولين، مشيرا إلى أن هنالك إجراءات تطبق بحق كل متسول يضبط، مطالبا في الوقت نفسه بأهمية دور المواطنين في مساعدة الجهات المسؤولة والإبلاغ عن المحتالين الذين يستغلون الناس ويكذبون عليهم، وعدم التعاطف مع المتسولين، تمهيدا للحد من التسول بشكل كبير في المملكة. ويكشف المتحدث الرسمي لشرطة محافظة جدة العقيد مسفر الجعيد، عن وجود خطة أمنية تشترك فيها إدارات مختلفة لملاحقة المتسولين في شوارع جدة وأماكن تجمعاتهم، ورغم الجهود التي تبذلها هذه اللجان لكنهم ما زالوا ينتظرون دورا أكبر من المواطن في التصدي لهذه الظاهرة التي تسيء كثيرا لمجتمعنا السعودي. مؤكدا، أن الفرق الأمنية السرية والرسمية تتابع تحركات المتسولين في كل المواقع، لافتا إلى أن فتح باب العمرة طوال العام، ساهم في دخول معتمرين بقصد التسول والسرقة أو أي عمل غير مشروع، والذي بعد حصوله على المال يذهب إلى سفارة بلاده بدعوى ضياع جواز سفره، لكن السفارات أصبحت في الآونة الأخيرة ترفض تسفيرهم، إلا بعد التنسيق مع الجهات الأمنية. منع التسول في المساجد وبما أن المتسولين، وصلوا إلى بيوت الله، وأصبحوا ينتظرون انتهاء الصلاة ومن ثم البدء في محادثة المصلين داخل المسجد أو خارجه، في هذا الجانب يؤكد مدير عام الأوقاف والمساجد في محافظة جدة الشيخ فهيد البرقي، وجود تعاميم صادرة على جميع الأئمة والخطباء بمنع التسول في المساجد، إيواء المتسولين وبدره أشار مدير مركز إيواء الأطفال المتسولين التابع لجمعية البر في جدة، زارع حكمي، إلى وجود بعض ضعاف النفوس الذين يستغلون براءة الأطفال وتشغيلهم في التسول حتى أن بعضهم يتولى تأجيرهم لآخرين، موضحا أن المركز منذ إنشائه، استقبل 7926 طفلا متسولا، تم إطلاق سراح 1586 متسولا، بعد تصحيح أوضاعهم مع إدارة الجوازات، من خلال دفع الغرامة المترتبة على تسولهم وأخذ تعهد على ذويهم بعدم العودة للتسول مرة أخرى، فيما بلغ عدد المرحلين 6340 طفلا، ووصل عدد الأطفال المتسولين المودعين داخل المركز، منذ بداية العام الحالي حتى يوم الثاني من هذا الشهر 37 طفلا وطفلة، وهم من مختلف الجنسيات العربية والأفريقية والآسيوية، أكثرهم من الجنسية السودانية، نيجريا، اليمن، تشاد وأفغانستان التي تعتبر الجالية الأكبر التي ينحدر منها أصول الأطفال المتسولين. الادعاء بغير الجنسية ويروى الحكمي بعض القصص لأطفال المركز قائلا: أتذكر طفل يمني، عمره 12 عاما، قدم إلى هنا بهدف التسول متخذا من المحلات التجارية والإشارات المرورية مكانا لتسوله، وبعد ضبطه والتحقيق معه ادعى أنه مصري ولا توجد لديه أي إثباتات، وكان يتكلم ويردد عبارات اقتبسها من مسلسلات مصرية، فتم ترحيله إلى مصر عن طريق البحر، غير أنه بعد التحقيق معه على متن الباخرة تبين أنه ليس مصريا وأنه يمني، فأعادوه إلينا مرة أخرى واستكملنا إجراءات سفره إلى بلده الأصل. وحول آلية استقبال الأطفال المتسولين، أشار إلى أن المركز يعمل بالتعاون مع الجهات الأمنية على إيداع الأطفال المتسولين في المركز إما لوجود آبائهم في إدارة الترحيل حتى يتم إنهاء إجراءات ترحيلهم من البلاد مع آبائهم، أو لحين إصدار إقامة نظامية بعد أن يتم سداد الغرامات المالية، ويتعهد الكفيل بعدم تكرار مهنة التسول لهؤلاء الأطفال. فالمركز ومنذ لحظة وصول الأطفال إليه يتولى تسجيل بياناتهم الشخصية واستلام ما بحوزتهم من مبالغ مالية وعينية ووضعها في الأمانات وتبديل ملابسهم القديمة بأخرى جديدة، وإجراء فحص طبي شامل عليهم وإعداد تقرير طبي عن حالة كل طفل لمنع انتشار أي عدوى بين الأطفال.