سرني الالتقاء به .. كان حاضر الذهن واسع الاطلاع.. باحثا عن التفاصيل بأسئلته المترامية .. عيونه الزرقاء ولغته العربية الفصحى أثارت فضولي لحوار طويل .. اختار أن تكون رسالته للدكتوراه عن واقع التغيرات في المجتمع السعودي .. وحين تعجب سؤالي كانت إجابته حاضرة..نحن ندرس الظواهر الاجتماعية نظريا في جامعاتنا ولن تجد مجتمعا في العالم أسرع تغيرا من مجتمعكم، إنه مجتمع يمكن أن ترصد فيه حجم التحولات بسهولة ..مانتلقاه نظريا نشاهده في مجتمعكم حراكا حيا.. هكذا يرى الآخر صورة المجتمع السعودي مجتمعا يعد في بيئة المعرفة حاضنة التغيير يستحوذ على قوالب حقيقية وعلى أطر تغييرية تستند إلى قوة الشباب. ومن هنا يلزم الحراك المؤسسي في المجتمع وعلى رأسه الحراك الدعوي بأدواته الفكرية وقدرته على المعاصرة والانطلاق من منطقة الثوابت والإفادة من جيل جديد أن يشكل هو حاضنة التحول باتساقه مع هكذا مجتمع، فينتقل بأطروحاته من سياق المصادمة المجردة في بعض حالاته إلى سياق التفاعل الإيجابي الكامل مع المجتمع والمبادرة الواعية لمضامين تغيير متزنة وراشدة والانفتاح على منطقة الإبداع الدعوي الذي يتعاطى مع مجتمع يعيش في القرن الواحد والعشرين، وهو جزء من حراك عالمي إنساني بكل مقوماته وإن تميز عنه بمقومات وخصائص ينبغي ألا تضعف في ظل طفرة وسطوة المادية الغربية وماسيساعد على توقف حالة الانبهار بالآخر لدى الكثير وتحويلها إلى منطقة تلاقح وتبادل فكري بيننا وبين الآخر المنتج للحضارة الغربية هو مدى إيجابيتنا واتساع مساحة تفكيرنا، بحيث لانقف ضد خيارات المجتمع في مناطق الإبحار المعرفي الإنساني المشترك والمتراكم، والتي تسكن في منطقة الإباحة مع تأصيل الثوابت الحقيقية لا المتوهمة. هاهنا ستسجل الدعوة نقطة إيجابية في تاريخها المضيء لتخفف من زوايا الاشتباك الفكري مع الآخر وتؤسس مرحلة نشأت فعلا وكان العهد النبوي مرتكزا حقيقيا لها وهي منطقة الدعوة بالحسنى التي فتحت قلوب وعقول العالم قبل أراضيهم. في المسافة للتأصيل تتراكم المشاريع الدعوية الإبداعية لتواكب العصر وتنافس مغريات الفتن ..فركاز الدعوية نموذج لمشروع القيم الذي اخترق أسوار الأسواق واعتلى منابر الإنجاز ليقدم قيمة هادفة غفلنا سنين عن كونها دعوة وتغافل خطابنا بدون وعي عن أهميته في تأسيس الإنسان المسلم المعاصر. حجم التحديات بحجم التغيرات وكفاءة المؤسسة الدعوية يتحقق بكفاءة العقل الدعوي الذي يتعاطى مع هذا الواقع. عقل يمتلئ فقها ويرتفع مقاصد ليقترب من فهم جبهات التحدي ويتسع صدرا للمخالف لاحتضانه قبل مصادمته، إنها دعوة لتتحرك صدورنا لاستيعاب الخلاف وفتح باب الأعذار مع المخالف في الدعوة وفي المجتمع، وأن نجدد عهد سلفنا الصالح بعدم التثريب في منطقة الرحمة (منطقة الاختلاف) وعدم المفاصلة مع المجتمع في ميادين الاجتهاد ..روح الدعوة السمحة ينبغي أن تحلق بنا في فضاءات الرحمة على إخواننا وأهلنا وهي حين تتشرب الفرد الداعية تصبح سمة للمؤسسة الدعوة. لسنا بحاجة لعقول خارجة عن واقعنا ولها بالضرورة أجنداتها الخاصة التي تمثلها وتعبر عنها لكي يتم اكتشاف واقع التغيرات في مجتمعنا وأدوات توجيه المجتمع وبأي اتجاه، بل الأولى أن ندرك نحن وأن يكون إدراكنا إدراكا علميا يستخدم أدوات البحث العلمي قبل البدء. حتى تكون أفكار الدعوة المبتكرة ووسائلها المعاصرة سبيلنا لفتح القلوب وتثبيت القيم، حينها سيتأمل كثيرا صديقي الفرنسي وبدل أن يرصد بيئة التغيرات كمادة خام قابلة للتشكل من قبل أدوات الغرب العلمية سيرصد وعي المجتمع وقدرته على رصد وتوجيه طفراته التغييرية خدمة لدينه وقضاياه. وهاهنا ستكون الدعوة الإبداعية حاضنة التغيير الحقيقي في المجتمع. * إعلامي سعودي