الإسقاطات التاريخية عن حقائق الوحدة اليمنية عبر مراحل تاريخية مختلفة ومكانتها كقضية محورية في قوانين التطور التاريخي للمجتمع اليمني، ودينمو محرك لجدلية الصراع الوطني، والمتحكمة بعوامل التطور والأمن والاستقرار سلباً وإيجاباً، هذه الإسقاطات التاريخية - التي سبق الإشارة إليها في موضوع الأسبوع المنصرم - تعتبر ضرورية جداً للحديث عن الوحدة اليمنية المعاصرة باعتبارها حتمية تاريخية أفرزتها قوانين تطور المجتمع اليمني ، واحتياجاته المعاصرة والمستقبلية من منظور الاحتياجات والمتطلبات الوطنية الملحة على مختلف الصعد الحياتية، ومن منظور الحاجة الإقليمية والدولية إليها. فالوحدة اليمنية بالنسبة للشعب اليمني شكلت حتمية وطنية وتاريخية فرضت وجودها خارج إطار الإرادات السياسية والتشريعات الوضعية والقناعات والمصالح الآنية لبعض الشرائح والمكونات الاجتماعية وقواها وأنظمتها السياسية، وقد أكدت وقائع التاريخ وأحداثه أن تجاهل هذه القضية كمحور ارتكاز وحاضنة يقوم عليهما المكوّن والمشروع الحضاري للمجتمع اليمني، ينطوي على نتائج كارثية تدميرية تعبر عن ذاتها في مظاهر شتى من التخلف المريع وحالات عدم الاستقرار الأمني، وغياب التنمية والسلم الاجتماعي، وفتح البلد أمام المشاريع الاستعمارية المباشرة وغير المباشرة والتدخلات الخارجية والقواعد الأجنبية، وتحويلها إلى قاعدة انطلاق لضرب المشروع القومي الوحدوي.. واستهداف أمن ومصالح الدول والشعوب المجاورة، وبؤرة للاستقطابات والصراعات الإقليمية والدولية، وغيرها من التداعيات والمخاطر والسلبيات التي لازالت حاضرة في ذاكرة ومعاناة شعوب ودول المنطقة منذ كان اليمن منشطراً إلى دولتين، وإحدى المناطق الساخنة والحيوية في المواجهة الإستراتيجية الفكرية والإيديولوجية والسياسية والعسكرية، وصراع المصالح بين الشرق الاشتراكي والغرب الرأسمالي ، وأثر ذلك على المنطقة.. اليمنيون الذين اكتووا أكثر من غيرهم بويلات التشطير وتخلفه المريع ومآسيه الكبيرة يضعون الوحدة في مصاف المقدسات والواجبات الدينية ، ويعتبرونها فريضة شرعية، وثابتاً وطنياً مصاناً في حدقاتهم من كل شر، ويجدون فيها عنواناً لمشروع وطني نهضوي يبنون على أساسه حاضرهم ومستقبلهم، وهي رمز ووسيلة عزتهم وقوتهم وحريتهم ومجدهم الحضاري. والوحدة اليمنية المعاصرة حقيقة موضوعية ومكوّن جغرافي وسياسي واجتماعي يفرض وجوده بفاعلية وأهمية ضمن السياق المعاصر لتوازن وحسابات المصالح والمشاريع الإستراتيجية العربية والإقليمية والدولية. كما أن الوحدة اليمنية تمثل نواة أساسية للوحدة العربية، وهي حاجة ملحة للتكامل والاندماج الإقليمي وإعادة بناء الكتلة التاريخية والاجتماعية والثقافية المكوّنة لدول الجزيرة العربية, وأحد مصادر قوتها في المستقبل، وحلقة مركزية في سياجها الأمني والدفاعي، وعاملاً مهماً من عوامل استقرارها وازدهارها وتطورها بما يمثله اليمن الموحد من إضافة نوعية إلى مجمل عوامل ومقومات حصانتها وازدهارها وتطورها، والوحدة اليمنية حاجة دولية ضرورية من منظور المصالح الاقتصادية والأمنية في هذه المنطقة الحيوية والإستراتيجية للاقتصاد والأمن الدولي، والمتسمة بطبيعتها الهشة واضطراباتها المزمنة. الأهمية التاريخية للوحدة اليمنية، والحاجة الدولية والعربية والإقليمية إليها، نابعة من طبيعة الوحدة ذاتها وخصوصيتها المنفردة، كنتاج وامتداد طبيعي لطبيعة المتغيرات الكونية المتسارعة نحو العولمة والتكتلات التي تشترطها الاحتياجات العالمية للأمن والازدهار والنهوض بمستوى الدول النامية والفقيرة وتعزيز وجودها واستقلالية إرادتها وخياراتها الوطنية بعيداً عن الإملاءات والهيمنة التي تسعى بعض الدول القوية لفرضها على العالم والاستغلال الإمبريالي لثرواتها. فالوحدة اليمنية مثلت من حيث مضامينها وأهدافها ووسائلها العملية وآليتها السياسية وأبعادها المكانية والزمانية أحد أرقى أشكال التوحد، والوحدة التي شهدها اليمن خلال تاريخه؛ تميزت بجملة من المعطيات ذات أبعاد حضارية وإنسانية أبرزها: الوحدة اليمنية المعاصرة التي تم تحقيقها في 22 مايو 1990م ظلت على مدى ثلاثة عقود ونيف مجرد مشروع تاريخي واجتماعي وسياسي طويل الأمد، تم انجازه بالتدرج من قبل كل شرائح المجتمع وتياراته وأطيافه السياسية، وتم تجاوز الكثير من المعضلات والمعوقات التاريخية والذاتية والموضوعية، بمدخلاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، ومعضلات التدخلات الخارجية المعيقة لها بمختلف أشكالها وقواها، وشكّل نمط الوحدة الاندماجية وشروطها واتفاقاتها وتشريعاتها الممكنة آلية توفيقية بوظائف ومهام مرحلية، مثلت في مجملها العام استخلاصاً لثمار تجارب نضال القوى الوطنية اليمنية وبرامجها السياسية الوحدوية، وللقواسم المشتركة لنظم الحكم السياسي السائدة في الشطرين، والأهم من ذلك خصوصيات الواقع الوطني ومستوى تطوره، وتكوينه الاجتماعي وتداخلاته، إلى جانب تلبية الكثير من الاحتياجات والاشتراطات المرحلية التي تتوافر فيها مقومات وعوامل النجاح لتجاوز عتبة التشطير وضمانات الاستمرارية لهذه الوحدة، وقطع الطريق أمام التدخلات الخارجية المحتملة، حيث جاء اختزال المرحلة الانتقالية المتفق عليها في اتفاقية نوفمبر 1989م من سنة إلى ستة أشهر كرد فعل استباقي حتمته الحاجة لقطع دابر المحاولات الرامية لإجهاضها قبل ولادتها. التقاط اللحظة التاريخية المواتية لنجاح هذا المشروع الوحدوي، وهي لحظة يمكن أن يكون النجاح قبلها غير ممكن وبعدها سيغدو مستحيلاً ، وقد جاء تحديد هذه اللحظة التاريخية الحاسمة بمثابة نتاج الاستقراء التاريخي للمتغيرات الكونية الشاملة المعتملة حينها ، واستشفاف صائب لأبعادها وآفاقها المستقبلية، والقدرة في الوقت ذاته على التعاطي الإيجابي المثمر معها وبما يخدم مصالح الشعب اليمني، وتحقيق أعظم أهدافه الثورية النضالية وأغلى أمنياته التاريخية. تميزت هذه الوحدة بأنها أعظم وأكبر الثورات اليمنية السلمية من حيث المتغيرات الجذرية الشاملة والإستراتيجية التي أحدثتها في الخارطة الجغرافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والأمنية، وفي طبيعة العلاقات وتوازن المصالح على الساحة الوطنية والإقليمية، هذه الوحدة السلمية تمثل عنواناً رئيساً لمشروع وبرنامج وطني نهضوي معاصر، وضمن السياق العام المكوّن للمشروع القومي الوحدوي النهضوي.. وهذا المشروع الذي استوعب الأهداف والاحتياجات الشعبية الآنية والمستقبلية؛ وجدت فيه الجماهير وسيلة لحشد الإمكانات والموارد والطاقات المادية والبشرية والإبداعية للوطن، وتوجيهها نحو قنوات جديدة تصب في صالح المجتمع وتحسين شروط وظروف أمنه واستقراره وحياته المعيشية وتعدد وتطور مصادر ثرائه المادي والروحي وازدهاره الحضاري. الوحدة اليمنية المعاصرة اقترنت بالديمقراطية الليبرالية الحديثة، وجاءت ولادتهما متزامنة "كتوأم سيامي" يحملان سمات وخصائص واقعهما الوطني المولد لهما، ودرجة تطوره الاجتماعي والسياسي والثقافي والتنموي ويحملان جيناته الوراثية التاريخية والمعاصرة، ولكنهما يتمتعان بحيوية النمو المتسارع الذي يكون أحياناً بشكل غير طبيعي ومشوه، إلى جانب قدراتهما غير المحدودة على التأصيل والتجديد.. التأصيل الذي يعكس الحاجة إلى التواصل مع التراث والتاريخ بفكر وآليات اجتهادية إبداعية، والتجديد الذي يشترط الانفتاح المتوازن على الحداثة وتجارب الشعوب لاستخلاص النماذج الرائعة والفوائد التي تلبي معطيات الواقع واحتياجاته المعاصرة والمستقبلية. هذان المنبعان "التأصيل والتجديد" اللذان يفترض أن يمثلا أحد مصادر الطاقة والقوة المغذية للوحدة والديمقراطية غالباً ما يتصادمان على الساحة الوطنية تحت تأثير القناعات والمواقف المتطرفة لبعض التيارات والقوى الممثلة لهما، وفشل محاولاتهما في الجمع بين ثوابت المجتمع وخصوصياته، والاستجابة لمتطلبات الواقع المتغير واشتراطاته، وهو ما أثر سلباً على واقع التطور، فكل من الطرفين يدعي احتكار الحقيقة، وينظران إلى بعضهما برؤية عدمية تتجاوز حدود النقد، وتلغي إمكانية الحوار المنطقي، الأمر الذي أسهم في حالات كثيرة دون تعبئة الإمكانات والجهود باتجاهات سليمة. وما يميز وحدة 22 مايو أنها ارتبطت بآلية سياسية ديمقراطية في قيادتها وتوجهها، الأمر الذي يعزز من أهميتها وفاعليتها الوطنية ونجاحها المتواصل؛ لأنها تنطوي في مكونها السياسي القومي بسلطاته المختلفة على مؤسسات ديمقراطية منتخبة ضامنة لمبدأ المواطنة المتساوية على قاعدة من الحقوق والواجبات والحريات السياسية والمدنية والإعلامية المكفولة دستورياً، وموجهة لتحقيق الاندماج الاجتماعي والتعدد والتنوع السياسي والثقافي والحزبي في إطار الوحدة، وتضمن في الوقت ذاته إعادة بناء وتجذير العلاقات والتوازنات والمصالح بين قطاعات الشعب على أساس من الخيارات الطوعية والتنافس الحر، الأمر الذي يجعل من الوحدة والديمقراطية وجهين لمشروع معاصر لا تنحصر مهمته في إلغاء التجزئة، ولكنه موجّه أيضا نحو حل مجمل معضلات الواقع اليمني وموروثاته السابقة وتجاوز حالة التخلف والتأخر الحضاري. تحديات الحاضر وآفاق المستقبل: عشرون عاماً هي الإطار الزمني الفاصل بين محطة الانطلاق ، والمحطة الراهنة التي بلغتها الوحدة اليمنية بعد أن سلكت دروباً غير ممهدة زاخرة بالعراقيل والحواجز الموضوعية والذاتية والمفتعلة من قبل قوى داخلية وخارجية، توقفت خلالها في بعض المحطات بشكل اختياري أو قسري؛ ولكن المسيرة تواصلت بسرعات متنامية تصاعدياً، وفي المسارات والاتجاهات السليمة تأكد خلالها هزيمة كافة مشاريع المتضررين من المكاسب والإنجازات والنجاحات التنموية في مختلف مجالات الحياة يفوق ما تحقق في اليمن خلال فترة التشطير بعشرات الأضعاف التي استهدفتها الوحدة على الرغم من الخسائر البشرية والمادية والجهد الكبير والوقت الثمين الذي حتم على شعبنا وفرض عليه دفعه ثمناً لانتصار خياراته التاريخية والوطنية الوحدوية، وكان ذلك سبباً رئيساً في كبح وتائر العملية التنموية، وأثرت سلبا على مشروعنا الوطني النهضوي وأهدافه المرجوة.. فما تعرض له وطننا خلال العقدين المنصرمين من تآمرات داخلية وخارجية كبيرة تسببت إلى حد ما في عرقلة المسيرة التنموية لدولة الوحدة؛ وفي بعض الحالات إجبارها على التوقف المرحلي إلا أنها فشلت في تحقيق أهدافها في إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء ؛ فالإنجازات التي تحققت خلال هذه الفترة في مختلف مجالات الحياة، تفرض نفسها كحقائق موضوعية راسخة بامتداد خارطة الوطن الجغرافية والاجتماعية وداخل كل منزل وفي المكون الروحي والمادي للمواطن؛ وما وصل إليه من رقي حضاري نوعي وشامل.. هذه النجاحات التنموية تجاوزت من حيث حجمها ونوعيتها وأهميتها ما تحقق خلال فترة التشطير بعشرات الأضعاف. وخلال عقدين من الزمن تجسدت الوحدة اليمنية في الواقع اليمني وفي حياة الشعب في جملة من الحقائق الموضوعية؛ أهمها على الإطلاق: حقيقة الوحدة ذاتها، التي صقل معدنها في أتون الصراع ومراحل التآمرات الداخلية والخارجية في الحروب التي استهدفتها منذ الولادة وبالذات حرب 1994م ؛حيث أضحت اليوم أكثر نضجاً، وقوة وصلابة وأكثر حصانة ومناعة؛ بحيث يستحيل على أي كان احتواؤها أو كسرها أو تقويضها. وأصبحت تحتل مكانة طبيعية مرموقة في الوجدان الوطني الجمْعي للشعب؛ وتتجسد بصورة حية في بنيته السياسية والثقافية والاقتصادية والأخلاقية، وفي تجذر وتشابك العلاقات والمصالح بين عناصره ، وبلوغها مستوى يستحيل معه فصم عراها وترابطها العضوي، كما يستحيل تقبل مجرد التفكير بذلك. القراءات التشاؤمية المشكّكة بالمستقبل والتي يحاول البعض تقديمها عن الوحدة من منظور إشكالاتها وتحدياتها الراهنة بمعزل عن جملة الحقائق الوحدوية الراسخة على أرض الواقع، ستظل قاصرة وبعيدة عن الصواب ومثيرة للجدل والتساؤل عن طبيعة أهدافها وجدواها السياسية، ولا تتسق مع حقيقة أن الوحدة هي عملية تاريخية غير قابلة للتراجع والارتداد وبالسهولة التي يتصورها هؤلاء، فأي دعوات انفصالية أو مشاريع تفكيكية وأيه توجهات أو رهانات محلية أو إقليمية أو دولية من هذا القبيل؛ إنما تعبر عن منطق متهافت؛ لا يستقيم مع حقائق الحياة, ولا يتسق مع نهر التاريخ المتدفق.. فالوحدة اليمنية لم تكن طفرة تأريخية بمعزل عن قوانين التطور, أو نزوة سياسية عابرة, أو شكلاً من أشكال الهروب السياسي إلى الأمام، كما يحلو للبعض تصويرها.. ولكنها نتاج طبيعي ومنطقي لفعل قوانين وسنن التطور الوطني, وحصاد نضال جماهيري تراكمي عبر أجيال، ولا أفق مرجواً لأي محاولات للنيل من الوحدة, والوقوف في وجه تيار التاريخ الجارف, وتجلى هذا بوضوح في الواقع الحياتي في العام 1994م، حين تعرضت الوحدة اليمنية الوليدة لتوها لأعظم المخاطر والتحديات المصيرية, وتجاوزت أخطر المؤامرات والتحالفات الداخلية والخارجية, وتجاوزت عتبة الانتكاسة والتراجع بعد تضحيات جسيمة وخسائر فاقت قدرة البلد على تحملها, ولكنها كانت تضحية ولا بديل لها لتثبيت وجود الوحدة وهزيمة المشروع الانفصالي وتفكيك قواه ، والقضاء عليه كنهج فكري وتيار اجتماعي وسياسي واقتصادي وكان يمتلك منظومة عسكرية قوية ومدعوماً بتحالفات خارجية متعددة، وتم القضاء الناجز على كثير من العوامل الموضوعية والشروط الذاتية والرواسب الشطرية المولدة والمحفزة للقناعات والسلوكيات الانفصالية.. وما يسمع اليوم من دعوات انفصالية ليس أكثر من مجرد أصوات فردية وظاهرة صوتية سياسية إعلامية أفرزتها إشكالات الواقع الاقتصادية التنموية, وليس لها وجود مادي فاعل على أرض الواقع ، ولا تشكل تهديداً حقيقياً للوحدة اليمنية كما يجري تصويره في بعض وسائل الإعلام الأجنبية. الدعوات الانفصالية والمشاريع التفكيكية التي نسمعها اليوم تمثل نتاج صناعة إعلامية دعائية, نجحت في استغلال صعوبات الواقع وأزماته وإشكالاته المعقدة وما يمثله من بيئة سياسية واجتماعية وأمنية رخوة مواتية لاستزراع وظهور المشاريع الصغيرة وتياراتها الاجتماعية والسياسية, واعتمدت خطاباً سياسياً وإعلامياً يروّج لدعوات وشعارات الانفصال عبر الخلط والربط المتعمد بين إشكالات وأزمات الواقع, وقضية الوحدة اليمنية, واعتبارها دليل فشل المشروع الوحدوي. وتواجه اليمن في الوقت الراهن مجموعة معقدة من الإشكالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأمنية المركبة والمتصاعدة التي تفرض نفسها على طبيعة الأحداث المتسارعة ، وهذه الإشكالات لها جذورها وأسبابها الموضوعية والذاتية التي تحتم وجودها في ظل الوحدة أو بدونها, فهي من الناحية الموضوعية تمثل نتاجاً منطقياً لواقع التخلف الاقتصادي المزمن وضعف بنية المجتمع والدولة المؤسسية ومحدودية خياراتها في معالجة هذه الإشكالات نظراً لمحدودية وعجز الموارد الطبيعية ، وتزايد النمو السكاني الذي يفوق معدلات النمو الاقتصادي بعدة أضعاف, ومن الناحية الذاتية فإن هذه الإشكالات تمثل نتاج شيوع الفساد السياسي والمالي والإداري, وانسداد أفق الحوار السياسي بين السلطة والمعارضة, وما ترتب عن ذلك من حالة قلق اجتماعي وعدم استقرار سياسي, ومن ثم العجز في صياغة مشروع واقعي للتغيير والتحديث وفق رؤية وطنية جامعة لكل النخب السياسية المتباينة. هذه الإشكالات لا يمكن معالجتها بمشاريع تفكيكية تدميرية على حساب الوحدة اليمنية ولكن من خلال إرادة سياسية وطنية قادرة على صياغة مشروع حضاري وطني جامع لمكونات الوطن الواحد أرضاً وإنساناً بعيداً عن المشاريع الضيقة ويستند إلى منظومة متكاملة من القيم العلمية والثقافية والسياسية والأخلاقية والتشريعات الدستورية والقانونية والمؤسسية ، ومشروع يعتمد إرادة وفكر سياسي منفتح ومستوعب لكل ظروف ومتغيرات المرحلة وقادر على التفاعل والتعاطي مع مجمل معطيات الواقع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية, ويأخذ بعين الاعتبار أن النجاحات والمعالجات تحتاج إلى إطار زمنيٍ كافٍ وضمن سلسلة من الإجراءات العملية المتزامنة على عدة مسارات وإن كان بدرجات متفاوتة, ولكن وفق خطوات سليمة كفيلة بخلق تراكمات متنامية من نوعيتها وكميتها وصولاً نحو درجة التحول الشامل. الوحدة والمسؤولية القومية: الوحدة اليمنية تجاوزت بأهميتها وأبعادها إطارها التاريخي والجغرافي المحلي, وظروف وشروط نشأتها نحو أبعاد قومية, وإن كانت في الوقت الراهن لازالت ذات سمات فكرية وثقافية وسياسية, وضمن دائرة اهتمامات المفكرين والمثقفين العرب ومراكز الدراسات والأبحاث المتخصصة ممن يحملون لواء النهضة العربية ومشروعها القومي الوحدوي الحضاري, إلا أن هذه الاهتمامات تمثل في مجملها وتفاعلها مع الواقع بداية عملية لإرهاصات نوعية تراكمية وبطيئة لعملية واسعة المدى مكرسة باتجاه تحويل المشروع القومي العربي من إطاره الفكري والثقافي والسياسي النخبوي إلى واقع وسلوك عملي عند القاعدة الشعبية العربية. فالوحدة اليمنية وإن كانت تمثل من حيث بعدها المعاصر ذروة التطور في الفكر الوحدوي للمجتمع اليمني, إلا أنها بالنسبة للمستقبل تمثل ذروة من ذرى تطور الفكر القومي العربي الوحدوي بأبعاده العملية, وستشكل قاعدة للانطلاق بالمشروع القومي الوحدوي نحو آفاق " فكرية سياسية اجتماعية واقتصادية تنموية"، عملية جديدة تمثل في جوهرها رد فعل لحالة الإخفاق الراهنة التي يعاني منها المشروع القومي, ولا يساورنا الشك لحظة واحده أن الوحدة ستحدِث على المدى المنظور تغيرات ايجابية لم تكن ضمن تصورات أكثر المفكرين والمنظّرين القوميين تفاؤلا؛ فحاجة الأمة العربية إلى التنمية ومواجهة تحدياتها ومخاطرها المحتملة, تحتم بالضرورة الخروج من حالة العزلة والانكفاء على الذات القُطرية, نحو المشروع القومي الوحدوي، وسيسهم الحراك السياسي الديمقراطي المعتمل في بعض الأقطار العربية بأكبر قدر ممكن من تحرير العقل والإرادة الوطنية باتجاه عمل وحدوي مسنود بتأييد شعبي حقيقي، في مواجهة استحقاقات المستقبل وعوامل التمزق والضغط الخارجي وقيوده المكبلة للقدرات العربية في التكامل المشترك مع الأوضاع والمتغيرات في المنطقة بما يتفق ومصالحها الوطنية والقومية. أهمية الوحدة اليمنية على الصعيد القومي أنها فرضت نفسها كاستثناء إيجابي، لحالة التراجع المتواصل للمشروع الوحدوي العربي، ومثلت نموذجاً حياً لاستنهاض الهمم وحشد الطاقات باتجاه التحول التدريجي نحو امتلاك زمام المبادرة وحرية القرار والوقوف في وجه التداعيات السلبية التي أفرزتها الأحداث التي شهدتها المنطقة العربية خلال العقدين المنصرمين وما ترتب عنها من تمزيق جديد لكيان الأمة العربية على الصعيد القومي وعلى الصعيد القُطري لبعض الدول المحورية. كل هذا يقتضي بالضرورة موقفاً ونهجاً عملياً عربياً واقعياً في التعامل بمسؤولية قومية مع الوحدة اليمنية باعتبارها نواة حقيقية لوحدة أو اتحاد عربي منشود، وبداية عملية ينبغي دراستها وتطويرها وتحليل إشكالاتها وصعوباتها وما يكتنفها من تحديات، والعمل بشكل مشترك لمعالجتها، ومدها بمقومات التطور والنهوض، لتقدم نموذجاً يحتذى به في المستقبل، لا سيما وانها قد تجاوزت العقدين من عمرها وبلغت مرحلة نوعية في قوتها وحصانتها ونجاحاتها الداخلية والخارجية، وأضحت غير قابلة للارتداد، وإذا ما استمرت الحرب ضد الوحدة، فإن النتائج ليست ارتدادية كما يظن البعض، ولكنها ستكون تدميرية للكيان الوطني اليمني وإعادة إنتاج الصوملة بمفهوم مغاير وأشد خطراً. في الحقيقة لا ننكر تخوفنا من أن الوحدة اليمنية مستهدفة ومصادر التخوف لا تكمن في الأصوات الداخلية المطالبة بالانفصال، ولكن مصادره قوى أخرى، لا زالت غير قابلة أو متقبلة بهذا الخروج الاستثنائي عن المشروع الاستعماري الصهيوني الموجّه لتكريس واقع التجزئة العربية، والاستمرار في تجزئة المجزأ والتدخل المباشر المعادي لمشروع التوحد القومي، الذي لا تقتصر أهدافه على تدمير الوعي والقناعات الوحدوية القومية في الفكر والوجدان الشعبي العربي، وإجهاض أي مشاريع عربية وحدوية تأتي خارج إطار المصالح والأهداف والمشاريع التوسعية للدول الغربية في المنطقة، وصولاً إلى ترسيخ الهوية والعزلة القطرية في وعي وممارسة النخب السياسية والمثقفة وإذكاء الخلافات والصراعات داخل المجتمع العربي وفي أوساط النخبة السياسية الحاكمة، والحفاظ على كيانات قطرية ممزقة من داخلها، ويسهل استهدافها وإضعافها وتعريضها للتفتيت الداخلي باستثمار أزماتها وإشكالاتها الداخلية (السياسية، الاجتماعية، الدينية، المذهبية، الطائفية، والاقتصادية) ولهذا يأتي الدفاع وحماية الوحدة اليمنية كضرورة عربية لإعادة إطلاق ثقافة وآليات التوحد على الصعيد القُطري أو المؤسسي القومي، وإعادة صياغة الرؤية والإرادة السياسية العربية لتعزيز الروابط القومية بين الدول العربية، وبالذات في هذه الظروف، حيث المخاطر والتحديات الكونية تولد الحاجة إلى مشروع قومي وحدوي موجه أولاً لحماية الكيانات القطرية من التفتيت، ويسعى ثانياً نحو تحقيق التوحد العربي وفق رؤية تستوعب الثوابت القومية وتحقق الاعتراف بسيادة الدولة القطرية ككيان واقعي بكل خصوصياتها ومصالحها وهويتها الثقافية، وجعلها قاعدة للانطلاق نحو تحقيق التوحد العربي بالصيغة المجمع عليها، باعتباره خط الدفاع المتقدم لحماية الوحدة الوطنية للعديد من الدول العربية التي تواجه خطر التفتيت.. * رئيس تحرير صحيفة 26 سبتمبر اليمنية