“توقفنا في الحلقة السابقة عند تأكيد أن التحول في هذا المسار بطيء، وليس عامًا للجميع؛ لكنه جارٍ ومستمر، ويتضح سنة بعد أخرى، سواء على مستوى الأفكار عند مناقشة القضايا في الأقسام العلمية، وفي الأطروحات، والندوات، أو على مستوى الأفراد”. ونواصل هذه التأملات والقراءات، ومن ثم المراجعات لم تكن خاصة ببعض العلماء وكبار الدعاة، ولكنه شارك فيها بعض طلاب العلم ممّن لم يتمكنوا شرعيًّا، خاصة أنهم تجاوزوا في قراءتهم نحو الفكر الخارج عن الدائرة الإسلامية كلها، دون نضج علمي كافٍ فأثمرت نظرة سوداوية لما هم عليه، واتجهوا إلى نقده بحيوية الشباب، وعدم حسبان العواقب، ومحاولة تبرئة الذات ممّا كانت متلبسةً به، واكتشفت خلله، وكان النقد حادًّا، وقافزًا كحال الهائج على أولاده نتيجة اكتشافه سوءًا كان يتصوّر ضده، فصار يضرب ويسب، ويدعو.. وتلقائيًا ولّد هذا رد فعل ضدهم، من قِبل زملائهم السابقين، لا نقضًا لأفكارهم، وكشفًا لأخطائهم -فقط- وإنما تهجمًا عليهم، ومحاربة لهم. وإخراجًا لهم -تصنيفًا- من الدائرة الإسلامية. في الوقت الذي يرحب فيه بهذا النقد والناقدين التيار المقابل للتيار الإسلامي فاحتفى بهم وفتح المجال لهم للارتماء في أحضانه، وشجّع نقدهم الذي يسير نحو هدفه. كان لا بد من الإشارة لهذه الحالة، وإن كانت تمثل ما وراء القوس الذي يقوم تحليلنا لما في داخله. تغيرات إجبارية إذ المقصود هنا ليست تلك الفئة، وإنما آخرون كبار، وأصحاب علم شرعي؛ علماء شرعيون، ومفكرون إسلاميون لهم أصالة علمية، وخبرات عملية، ومقام في ساحة الدعوة عاشوا المخاض الذي ذكرناه والأزمة التي أشرنا إليها، والقراءات التي حفزهم لها طلب التأهل لريادة الحِراك الثقافي في مجتمع يتحوّل ويطلب هذه الريادة الثقافية من مختلف شرائحه، ولقد أدركوا النتيجة التي ذكرت، وأن النسق الثقافي الذي هم عليه يواجه اختناقًا إن لم يتحلحل عن ثباتيته الشاملة إزاء كثير من القضايا الثقافية، والاجتماعية، وأدركوا أن هناك قضايا أعطيت أحكامًا مجملة وهي تحتاج إلى تفصيل، وأمورًا حجب الوقوف عند مصطلحاتها معرفة مضامين تنطوي عليها، لها غير حكم المصطلحات، وتبدت لهم وجهات نظر، بل اجتهادات تختلف عما تواطأ عليه المجتمع فيما مضى وما هو قائم، وما كانوا مندرجين فيه وصاروا يصارحون بعضهم في اللقاءات التي تجمع علماء، ودعاة من ذوي التفهم، وقد تخرج من بعضهم هذه الآراء بصورة فردية سواء كانت في حقيقتها ممّا يتوافق عليه مع الشخص المُعْلِن بها كثير من طلبة العلم والدعاة -رياضة النساء، افعل ولا حرج- جواز الاحتفال باليوم الوطني.. ونحوها. وتحَرُّج بعض هؤلاء من إبداء اجتهاداتهم التي يرونها حقًا يدينون لله به ناتج عن أمور منها: • خشية فتنة الناس بآراء، وإن كانت حقًا كما يرون إلاّ أن مصادمتها لما استمرأه الناس على أنه دين في حياتهم الماضية قد يحدث بلبلة في نفوسهم. • التهيب من سطوة أصحاب الرؤى السائدة الذين لن يكون موقف -بعضهم على الأقل- موقف نقد، واحتجاج بالدليل، والتعليل، وإنما سيتجاوز إلى الاتهام بإفساد الدين، وتمييع الشريعة، وما هو أشد مما وقع -فعلاً- لبعضهم. • خشية أن يُفهم منه التزلف، خاصة فيما يكون حلاً لبعض المشكلات التي تعاني منها الدولة، أو بعض شرائح المجتمع ذات النفوذ كرجال الأعمال، والإعلام ونحوها. • تكتيك التيار الآخر في انتزاعه زمام المبادرة من التيار الدعوي في بعض القضايا الاجتماعية - قيادة المرأة للسيارة - رياضة المرأة - بيع المرأة في الأسواق الرجالية - السينما - زواجات المرأة - وأخيرًا الاختلاط، حيث أوقع هذا التيارُ تيارَ الدعاة، وطلبة العلم الشرعي في إحراجين: • إشغالهم عن منطق المبادرة، ومن ثم تحديد الأولويات، وتدرج الإصلاح. • استفزازهم نحو رد فعل مضاد؛ أي أن سنده المضادة بالدرجة الأولى، ثم الاستدلال الشرعي تاليًا، وبما أن موقف المستفِز كلي دون تفصيل؛ ضرورة الاختلاط، ضرورة الرياضة للمرأة هكذا بإطلاق دون تحديد للحدود المطلوبة من سواها؛ لذا يأتي رد الفعل -تلقائيًا- كليًّا بالرفض المطلق وهذا ما يجعل أصحاب تلك القراءة التي تفكك القضايا، وتفرز عناصرها ومن ثم تتفاوت الأحكام لديها على هذه العناصر خائفة أن يكون كشفها لما لا يوافق التيار الدعوي الرافض خدمة للتيار المقابل، الذي يدركون من خلال قراءتهم لأجندته التي يعلنها -بعض المنتسبين إليه من متطرفيه- أن أهدافه تتجاوز هذه المطالب العملية الجزئية نحو تحرر من الرؤية الدينية التي تهيمن على الحياة الاجتماعية. جدل الاختلاط لكن هذا الوضع منهم ليس حلاً؛ بل مشكلة تحتاج إلى حل؛ هل تترك الأمور (على اطمام المرحوم) كما يقول المثل الشعبي؛ أي ترك الأمر على ما هو عليه، وإن كان غير مُرْضٍ، أو يتبعون موجة الرفض، وإن كانت خلاف قناعتهم لمجرد مضادة الآخرين، وحفظًا للأتباع أن يتبددوا، أو يعلنون آراءهم مغالبين التيار المقابل في حشره إيّاهم في رد الفعل، وتيار الانفعال ضد الفعل برده انطلاقًا من منطق المضادة، ساعين بهذه المغالبة نحو موقع يكونون فيه فاعلين أُصلاء في الإصلاح الاجتماعي، والثقافي في المجتمع المتحوّل. كما قلت سابقًا الرؤى الاجتهادية سواء في قضايا منهجية أو موضوعات متوافرة لدى عديد من الرواد -علماء ودعاة- يتدارسونها بينهم دون حرج، وقد يُعلِن بها أفراد كما مثَّلث. لكن قضية (الاختلاط) مؤخرًا فتحت ما كان موكأ وبصورة شبه مفاجئة لكثيرين: - رفض للاختلاط من قبل بعد الدعاة . - يقابله هجمة من التيار المقابل للتيار الدعوي على هذا الرفض، والتحريم. - يتصدّى لهذه اللهجة فئام من التيار الدعوي بهجوم مضاد. - ثم يخرج علماء شرعيون من التيار الدعوي معلنين اجتهاداتهم في الاختلاط في تفصيل يبين أن من الاختلاط بين الرجال، والنساء ما هو جائز، أو حتى مشروع وهو ما يلتقي ظاهريًا مع التيار المقابل، واتخذ بعضها منطقًا إعلاميًّا فيه شيء من الحدة كأنهم توقعوا ما سيواجههم من تيارهم فاستبقوا الهجوم، أو أنهم ممّن ناقش هذه الأفكار شفهيًّا مع بعضهم فهوجم. كانت قاسية على تيار المواجهة الدعوي للتيار المقابل في هذه القضية؛ سواء من حيث توقيتها، أو من حيث عباراتها، أو من حيث جماعيتها؛ حيث خرجت في وقت متقارب من عديد من رموز في العلم الشرعي. ولهذا وُوجهت بقسوة مقابلة -من قِبل بعض الرادّين عليها- وصفًا لهؤلاء بالعمالة والفجور والتتلمذ على الليبراليين ووصفًا لفتاواهم بالمزيفة والشيطانية... إلخ فضلاً عن الردود العقلانية. هذا كله أمر جرى على مستوى الواقع، والصحافة، والإعلام، والشبكة العنكبوتية. التساؤل الاستشرافي: • هل ما جرى فقاعة صابون ستنطفئ سريعًا، وتُنسى انتظارًا لمشكلة جديدة؟ • أو أن ذيول هذه القضية ستتواصل، ويخرج مشايعون جدد، وتتحوّل المقالات إلى كتب في القضية، ويقوم له برامج فضائية، وربما تجاوب مع تطبيقات عملية، يحيلها إلى بداية مسار جديد في التيار الدعوي -الشرعي تحديدًا- بحيث يصبح التيار الدعوي؛ وبالذات على مستوى علمائه الشرعيين جناحين: - جناح يبقى محافظًا على النسق المعرفي، وما عليه الفتاوى والاجتهادات السابقة محاولاً تطويع التحوّلات لتندرج فيه، ومناوئًا الجناح الجديد، متتبعًا مواقفه لمطاردتها عن الساحة أن تُقبل فيها، وسيكون لهذا الجناح أتباع ستحملهم غيرتهم على محاولة إخراج هذا الجناح الجديد من دائرة العلمية الشرعية؛ ومن ثم من دائرة الإسلامية، وقد حدث شيء من هذا في قضية الاختلاط ذاتها. - وجناح يقدم آراءً جديدةً في القضايا آخذةً بمنهجي التحليل، والرجوع إلى المصادر الأصلية بالذات القرآن، والسنّة، وسيرة الصحابة؛ فهي اجتهادات وآراء محكومة بإطار شرعي، لكنها تخرج على النسق الجاري في المجتمع في عوائده المستندة على فتاوى شرعية مدعمة لها. منطلق اجتهادات هذا الجناح مقاصد الشريعة، وأحكامها، وتصور الواقع في خلفياته، وتطوراته، وإمكاناته وضروراته، وقد يتعاظم هذا الجناح فيلتف حوله آخرون ويتشكل منه تيار لا يقف عند حدودٍ جزئيةٍ، أو اثنتين ممّا اعتاد الإسلاميون انتظار التيار المقابل قذفهم بها، وإنما يتجاوز نحو نبش كثير من القضايا ونقد الرؤى القائمة فيها، وبناء آراء، ومواقف فيها بحسب ما ينتهي إليه اجتهادهم وقد يختلفون هم -فيما بينهم- على الرغم من المنزع النقدي الاجتهادي المشترك، وقد يتشيع له أتباع يبادلون أتباع الجناح الأول الاتهامات والسباب، يمكن تسمية هذا الجناح بالنقدي، أو الاجتهادي، في مقابل المحافظ، على أن الوصف هنا للاختصار لا للتقويم. ويحسن هنا التأكيد على أن الجناحين كليهما -على مستوى العلماء، وطلاب العلم العقلاء- يتفقان على المنهجية من حيث الرجوع إلى المصادر الأصلية؛ الكتاب والسنّة، وإلى هدي السلف -الصحابة بالذات- ومن حيث حق العالم الشرعي في الاجتهاد ما دام يملك آلته، ومن حيث إن الواقع لا شرعية له إذا ما خالف شريعة الله، ونحوها من الأسس النظرية المهمة؛ إن بؤرة الخلاف المعلنة هي في السياق الذي وقعت فيه هذه الإشكالية: المحافظون يقولون: إن الإشكالية ليست في الحكم الفقهي بالتحوّل من رأي إلى رأي، وإنما هي بالرمزية، فالرأي محترم نظريًّا ما دام يستند إلى دليل، كما أشير إلى اجتهادات لطلاب علم خالفوا فيها علماء آخرين أو قرارات هيئات ولم تثر ضجة ضدها؛ لكن الرأي خاطئ عمليًّا أي غير مناسب للمقام، فالتيار المناوئ هو الذي يتبنى الفكرة ابتداءً بصفتها خطوة نحو أهدافه المتجاوزة للشرع، كما يقرأون هذا التيار عبر تصريحات شبكية له. مستجدات عصرية ثم إن هذه الكتابات التي تنتقد الموقف المحافظ لرفضه الكلي للاختلاط جاءت كأنها رد فعل لهذا الرفض من حيث الصيغة التهجمية على الرفض هكذا يقول المحافظون. أيضًا يقولون: إنكم تسيئون فهم الواقع حينما تتحدثون عن القضية -الاختلاط- منزوعة من سياقها المعاصر، مُلبسة سياقًا لم يعد قائمًا. فالسياق الذي كان عليه الاختلاط في العهد الإسلامي الأول والذي استمر في الأرياف المحافظة إلى وقت قريب كان سياقًا محافظًا تحكمه شيم المروءة والعفة والبُعد عن الفتنة، واحترام إنسانية المرأة، هذا في المجرى العام، أمّا السياق المعاصر الأوروبي للاختلاط فهو سياق مليء بالإغراء، والفتنة، ورقة الدّين والجسدية؛ سياق تشهدونه حاضرًا، وتقرؤون آثاره وإحصائياته. والنقديون يقولون: إن الموقف المحافظ هو الذي يسهل اندراج المجتمع في سيل العولمة بدون ضوابط برفضه ما سوى ما استقر في المجتمع مدعمًا بالرؤى التي تحمي وجوده بكل ما فيه من حق، وباطل، أو مناسب، وغير مناسب، وهو ما يجعل الناس في إطار تحولاتهم الحضارية ينساقون نحو الحق تهديًا إليه، يدركونه بحسهم الديني الفطري، أو بالتساؤل عنه حينما يرون مسلمين آخرين عليه، فيتعرفون على مستندات أولئك عليها، ولأن الذي رسم هذا الحق وتبعوه فيه حينها هو التيار المقابل فإنه سيجرفهم نحو باطله حينما تتحول دفة قياد هؤلاء الناس إليه، فأولى -يقول الناقدون- أن يبادر العلماء الشرعيون بتحديد المساحات المقبولة شرعًا، وإن خالف بعضُ جوانبها ما نتبناه من آراء، أو نعيشه من تقاليد، وبأن يعترفوا بعدم خروجها من الشرع وإن كانت وجهة بعضهم تختلف -اجتهادًا- عن السائد ولا يجعلوها خارجةً عن الإسلام، وشاذّةً، واتباعًا لأعداء الدّين لمجرد كونها لا تتفق مع اجتهادهم الخاص الذي تقابله اجتهادات، أرجح، أو مساوية، أو أقل رجحانًا من رأيهم. إن كان الاحتمال الثاني من الاحتمالين -أقصد احتمال تشكل جناحين: محافظ ونقدي في تيار العلماء، والدعاة- هو ما سيكون مستقبلًا؛ فإن الجناح الثاني -النقدي- سيسعى شأن كل تيار ينشأ في جو غير مواتٍ إلى شرعنة وجوده عبر إبراز رموزه، واستعادة الصور التاريخية التي تُدعِّم منهجه وتكشف فشل أسلوب الرفض العام ثم الخضوع، ثم القبول خاصة القريبة منها، كالبرقية - تعليم العلوم الدنيوية - تعليم البنات - الإذاعة... إلخ، وإبراز الرموز المعاصرين، والاجتهادات المعاصرة الجارية في سياق اجتهاداتهم، وإبراز تراجعات بعض العلماء عن اجتهادات كانت على النمط المحافظ، والاستباق نحو القضايا المتوقع أن تكون مجال جدل بين التيارات في المجتمع، وسيحاول هذا الجناح تحجيم الجناح المقابل. النقد البناء في المقابل سيشعر الجناح المحافظ أن هذا سحبٌ للبساط من تحت أقدامه، ولن يسمح بهذا الاختطاف، وسيحافظ على مكاسبه أن تسلب، وعلى مواقعه أن تحتل، وسيسعى لتحجيم الجناح النقدي، وربما استعان كل منهما بقوى من خارج ساحتهم على مناوأة الآخر. ربما يرى البعض أن تدافع الجناحين في المجال المعرفي المتعلق بهموم الناس القائمة سيحقق حيوية علمية، واستقطابًا للجمهور الذي سيتوزع بين الجناحين، وقد يعيد شيئًا من زخم تفعيل الأحكام الشرعية في الواقع الحضاري... أجل قد يكون هذا واردًا؛ لكنني أخشى لهذا التوزع، بهذه البداية التنافرية، والتعادي المستقطب للجمهور -أخشى- إن لم تضبطه حكمة العقلاء، وورع التقوى، وفقه الاعتصام بالحق، وأهله أمام الباطل وأهله، وروح الجماعة، والاجتماع أن يثمر بلاءً، وتطاحنًا داخليًّا، والتهاءً بالذات عن الآخر المضاد، وانتصارًا للأشخاص، والأجنحة على حساب الدّين والمجتمع؛ لهذا أقترح (وجهةً) متواضعة في ساحة التجاذب الفقهي القائم إثر هذه المبادرة النقدية من قبل مجموعة من العلماء للرؤية التي يقف معها آخرون من العلماء في قضية “الاختلاط” إذا صح الافتراض المذكور بتواصل الجناح النقدي إزاء مستجدات القضايا الخالفة لقضية الاختلاط؛ فعسى أن تكون هذه الوجهة منطلق بناء للعلم الشرعي في الواقع الفقهي الراهن اجتهادًا وتجديدًا، وسبيلَ إصلاح متزن في المجتمع، وقوةً للتيار الدعوي، مقابل التيارات المناوئة له. تتمثل هذه الوجهة فيما يلي: - التيار الدعوي -في المملكة- بعلمائه، ودعاته، ومفكريه؛ محافظيه، وناقديه هو روح المجتمع السعودي المتدين، الذي يشعر برسالته الإسلامية في أبعادها المختلفة، وهو -بعد الله- مآل هذا المجتمع في بناء وجوده الديني والإنساني والحضاري كلّما تقدم الزمن واحتاج إلى التجديد، وما سوى هذا التيار سواء كان تيار تعويق له، أو تيار مغالبة له ليس له مستقبل في المجتمع السعودي المتدين الحذر، ذي الحس الديني. نعم إن مثل هذه التيارات لها جهود إيجابية من حيث تقصد، أو لا تقصد؛ فمن خلال نقد بعضها يتحفز التيار الدعوي لترشيد سيره، وتحسس مواقع خطوه، ومن خلال ضخ الفكر المعاصر، وهز القيم العُرْفية المترسخة من قبل التيار الآخر، يسهم -بلا شك- في إثارة قضايا، وتساؤلات يتحرج التيار الدعوي من مباشرتها، فإثارته لها هو تليين للعقلية الشعبية لجعلها قابلة للتجديد الإسلامي، دون أن تتجاوز نحو الانفلات الاستلابي لما وراء الإسلام. - وإذا كان المجتمع متدينًا على المستوى الشعبي فإن دولة هذا المجتمع هي دولة متدينة أيضًا، وقد أثبتت تجربة الماضي أنها لم تكن عائقًا عن البناء الحضاري المبني على الإسلام للمجتمع، وهو هدف التيار الدعوي -بل إنها كانت سابقة إليه قطاعًا كبيرًا أهل هذا التيار- لكن هذه المنحة تحمل تيار العلماء والدعاة مسؤولية أن يكون على مستوى الاستجابة لحاجة هذا المجتمع، وهي حاجة تتجاوز المستويات التي كان عليها المجتمع في فرديتها، وجزئيتها، وبساطتها نحو مستويات تتسم بالتعقيد، والكلية، والشمولية خاصة حين يعود عشرات الألوف من المبتعين والمبتعثات، وتقذف الجامعات المتوالدة الآن بعشرات الآلاف الآخرين، وتجرى التحولات التي يعيش العالم مخاضاتها بما فيه مجتمعنا. نقص التكوين - لا بد أن يكون هذا التيار على مستوى الاستجابة الكفؤة لحمل هذه الأمانة، وحتى يكون كذلك لا بد أن يرتقي بمواصفات رواده؛ علماء، ومفكرين ودعاة درجات عمّا هو عليه، وأن يتجاوز مرحلة الوقوف أمام التغيرات لتصدمهم الأحداث، وتفاجئهم المستجدات وهم عاجزون عن التأثير فيها، أو اللياذ عنها، أو الإصرار على أن الزمن ينبغي أن يستمر على النسق الموروث، أو تعاظُم أن يفعل هو في الواقع مع سكوت غيره فيجانبه. - وينبغي الاتزان في مسلكي المغامرة والتوقف؛ نعم كل حركة اجتهادية -إبداعية- أو تجديدية صادقة لا بد لها من قدر من المغامرة؛ لكنها ينبغي أن تكون محسوبة، مدروسة التأثير على الحاضر، والمستقبل، ويقال مثل ذلك في (التوقف) الذي ليس حكمة في كل الأحوال، بل قد تكون الحكمة أحيانًا بخلافه. - العالم الشرعي المعاصر يعاني من مشكلتين: • الروح العصرية التي تضغط بقوة لتنميط المجتمع، وعولمته، حيث تصيح به النخب الثقافية والتكنوقراطية، والسياسية أن يجتهد؛ أن يقوم بدوره الفقهي في دعم مسيرة المجتمع عبر استخدام عقله لتجاوز الفتاوى القديمة، وإيضاح توافق الإسلام مع ما يفيض به هذا العصر، ومباركة ما يُقدِّر هؤلاء أنه مصالح للمجتمع؛ والإسلام دين تكميل المصالح، فإن تلكأ فليس بمجتهد والبدلاء كثير. • نقص التكوين علميًا وخلقيًا: إن الدولة -في المملكة- بمعونة بعض العلماء، أوجدت التعليم النظامي في مجال الشرعيات، معاهد علمية، وكليات شرعية، وأصول دين، ودراسات إسلامية لتخريج مختصين في مجالات العلوم النقلية؛ وهذا جهد مشكور لا ريب فيه. لكن هذا التعليم الشرعي في موضوعاته، وأساليبه المنهجية، وآليات تدريسه، وإن أثمر خريجين صالحين للتدريس، والوظيفة، ونحوها إلاّ أنه عاجز -بشكل عام وبمفرده- عن إيجاد العلماء المجتهدين الذين يملكون -في آن- العلم الشرعي الراسخ، والفقه الواقعي السليم المتماسك، والتدين الذي ينبض بالورع والتقى. ليس ذلك نفيًا لوجود من يملكون هذه العناصر؛ لكنه إشارة إلى عجز المنهجية المعرفية القائمة -لوحدها- عن البناء المتكامل لهذه العناصر. مواثيق شرف هذا الأمر يقضي بالاهتمام بمؤسسات التعليم الشرعي من قبل علماء الشريعة للارتقاء بها علميًّا، وتربويًّا كي تكون مؤهلة لتخريج كفاءات علمية قادرة على الاجتهاد في معضلات العصر، والسيطرة على سيرورة المجتمع لتبقى في إطار شريعة الله. - أن يدرك الجناحان أن تجاوز حال التدافع نحو الصدام التصفوي، وهتك العرض العلمي للآخر، وإخراجه من الدائرة العلمية تمهيدًا للإخراج من الإسلامية -أن ذلك كله- سيؤدي إلى تحطيم الطرفين، ونزع ثقة الجمهور بهؤلاء، ومن ثم بالتدين كله، وفتح المجال لاختراق التيار المتربص بتيارهم لبعض العناصر منهم لتكريس اضطراب صفهم عن طريق (الفوضى الخلاقة) من أجل تسيده في الساحة. - ينبغي أن يتوحد الرواد -ومن ثم الأتباع- على الحق عبر ما يسمّى ب “ميثاق شرف” علمي، دعوي، شرعي تحدد فيه الأطر المنهجية، والآداب التعاملية. لا أريد أن أدخل في توصيف بنود مثل هذا الميثاق، لكني أؤكد على أنه ينبغي أن يشتمل على الضوابط العلمية في الاجتهاد، والمسالك العملية في التعامل مع الأطراف المختلفة فمثلاً: • التفريق الواضح بين إطلاقية النص الشرعي الثابت، ونسبية الاجتهاد، ومن ثم إلزامية الأول دون الثاني بالنسبة للعالم، والداعية. • مستويان للعلاقة البينية: المستوى الشعبي بحيث تكون متلاحمة رغم الاختلاف، حتى يحفظ أمام الجمهور كل عالم حق الآخر الذي يختلف معه، والمستوى العلمي الذي يكون مجال تدافع، ونقد، ورد ضمن الأدب الشرعي. • النقد حتى على المستوى العلمي يتجه إلى الاجتهاد والآراء، لا إلى شخصية صاحبها. • العلاقة بالدولة ينبغي أن لا تكون مجال مزايدة، إن بالولاء، ومن ثم الاستعداء بها، أو بالاتهام بالتزلف. العلماء والدعاة أيًّا كانت مواقعهم هم والدولة في خط واحد في عملية البناء والإصلاح، وحل المشكلات في المجتمع، والإسهام في رفع الحرج عنها في التعاطي مع العصر في إطار الشريعة أمر مطلوب شرعًا منهم أيًّا كانت مسافة صلتهم بالنظام نفسه. وإن لم يقم العلماء الأبرار، والدعاة المخلصون بهذا المسلك التعاوني مع الدولة بحجة أن طبيعة السياسة المعاصرة غير قابلة للتزكي (وفق الصورة المثالية) التي يتراؤونها فإنهم يكونون قد فرطوا في أمانتهم من جهة، وفتحوا المجال للبدائل الانتهازية باسم الدّين، أو الوطنية ونحوها من جهة أخرى. وهذه الإشكالية ليست جديدة مع النمط السياسي المعاصر؛ لقد عانى منها المجتمع الإسلامي في القرون الماضية؛ يذكر ابن القيم في كتابه (إعلام الموقعين عن رب العالمين) مناظرة جرت بين أبي الوفاء بن عقيل وفقيه آخر يرى -هذا الفقيه- أن السياسة ينبغي أن تقف عند حدود ما نص عليه الشارع، وأن كل ممارساتها يجب أن تكون منطلقة من أدلة نصية، وإلاّ فهي باطلة مرفوضة في الإسلام حتى وإن تحققت بالعدل، فقال له ابن عقيل (السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به الوحي) إعلام الموقعين 4/372. • أن يكون هناك مشروع للخطاب الدعوي في المجتمع السعودي يحدد فيها أهدافه، ومسالكه العلمية، وآليات العمل، وكيفية الإسهام فيه من قِبل كل قادر على هذا الإسهام. أيضًا لن أتحدث في عناصر هذا المشروع لكني أشير للإيضاح فقط بأن من أهم ما ينبغي أن يتجه إليه بالبحث، والدراسة، والاجتهاد، والفقه الجمعي تحرير المفاهيم الكبرى التي ما زال اضطراب الناس فيها وفيهم كثير من الدعاة قائمًا، وتجديد الثقافة السلفية في مواقفها من المشكلات، والمعطيات المعاصرة، وصياغة منهجية للعمل الفكري الإسلامي، فضلاً عن تطوير دروس المساجد، والمؤسسات الدعوية ومتابعة المنتج الإعلامي رصدًا، ونقدًا، وصياغة رؤى منطلقة من الشريعة لإصلاح الأوضاع الاجتماعية، ومعالجة ظواهرها القائمة، فضلاً عن العمل الدعوي الخارجي... إلخ. ولعل ممّا يدخل في هذا المشروع من القضايا المهمة إعادة صياغة فقه الإسلام في بناء نظري متكامل مبني على فقه الواقع القائم الآن؛ أي بناء “مدونة فقه” تشتمل كما اقترح بعضهم فضلاً عن العبادات، والأحوال الاجتماعية التي يمكن إعادة صياغتها وفق النسق المعاصر تشتمل على الاقتصاد، والبنوك، والطب الشرعي، والنظام السياسي، والمعلوماتية ونحوها. • التيار المقابل للتيار الدعوي في المجتمع السعودي يمثل إشكالاً، وهما، ومثيرًا للتيار الدعوي خاصة وأن الانفعال بحراكه ينطلق ابتداءً -في الغالب- من الأتباع نحو الرواد، والأتباع غالبًا ما ينفعلون، ومن ثم يتخذون مواقف دافعها الغيرة الدينية لا الرؤية الشرعية المستندة إلى هدي الوحي، والمصلحة المعتبرة، ثم يقاربون روادهم لتأييدهم، واستقطابهم معهم بحيث ينعكس الوضع فيصبح القائد مقودًا. ويحسن بالتيار الدعوي أن يدرك أن أغلب من يُصَنفَّون -لدينا- ضمن التيار المقابل للتيار الدعوي الذي يوصف ب(الليبرالي) مسلمون صالحون، لديهم حرارة إيمانية، وأداء للشعائر، ومحاذرة لتجاوز الإسلام، وإن كان في بعض أطروحاتهم عدم اعتبار للأدبيات الشرعية؛ لعدم تخصصهم، أو عدم اهتمامهم، وإن كان في بعضها الآخر مناكفة لبعض القضايا مناوأة لرافعي شعارها من الإسلاميين، ولكنهم على كل حال قريبون من الحق، متفقون في كثير من القيم الإنسانية التي جاءت بها الشريعة مع التيار الدعوي. نعم هناك عدد محدود من الصور الناشزة الحادة في أساليبها، المنحرفة في فكرها لكنها محدودة -كما قلت- وهم في ذلك التيار كالسفهاء الغلاة المنتسبين للتيار الدعوي ممن ينادي العلماء والدعاة بالبراءة منهم، وبتجريم الحكم على التيار الدعوي من خلال أولئك. عليه فإن التيار الدعوي بحاجة إلى أن يصوغ في مشروعه المقترح خطة للتعامل الإنساني الهادف مع ذلك التيار عبر عقلائه نحو كلمة سواء بينهما تتحدد بها المنطلقات الجامعة؛ كالكتاب، والسنّة، والمصلحة الوطنية، والمسالك المشتركة، والفوائد المتبادلة لصالح الدّين، والوطن، والتيارين. أن يستثمر التيار المتاحات المعاصرة في إشادة قيمته العلمية، ودراساته الاجتهادية، ومشروعاته التجديدية؛ مراكز دراسات، ومجامع اجتهادات، ومجلات وفضائيات، ومؤتمرات، وحلقات نقاش، وورش عمل، ونحوها من أجل الجهد الجماعي، والعمل المشترك، والبحث الدؤوب المتواصل، والمراكمة، وملاحقة تجددات القضايا. • أستاذ الثقافة الإسلامية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية