ليست الدكتورة لمياء باعشن الأكاديمية الجادة فقط، ولا الناقدة الصارمة المعايير، بل هي «روح» إنسانيتها عالية وراقية، حجازية المنشأ، كونية المعرفة، متجددة الأفكار، أصيلة الانتماء، ونحن اليوم معها في مسامرة رمضانية، وسهرة عكاظية، مع حديث ذكريات.. جواهر معلمتي • من كانت قابلتك أثناء الولادة، ومن الذي اختار لك اسمك؟ •• ولدتُ على يد الدكتور خالد إدريس، ووالدي هو من اختار اسمي من رواية «فتاة القيروان» لجرجي زيدان. • هل احتفلت أسرتك بقدومك، وما نوع الاحتفال؟ •• كما جرت العادة، كان الاحتفال في اليوم السابع من الولادة، وتمّت التسمية ورمي قطع الذهب في مهد المولود المغطى بمفارش ستان أبيض مطرز، ثم غنى الأطفال أهزوجة «يا داية» وهم يدورون حاملين الشموع في جميع أنحاء المنزل بما في ذلك السطح، وتم بعدها توزيع حلوى خاصة اسمها الرُبعي ومعها قرص الشُريك. • من معلمتك الأولى؟ •• عمتي جواهر، كانت (رحمها الله) مدرسة في التربية، حيث لا تأمر ولا تنهى، بل تقدم النصيحة في سياق التعليل والإقناع بالحجة، فدرّبتني على إعمال العقل، وعلى النظر للمسائل من زوايا مختلفة قبل إصدار الحكم عليها. حارة المظلوم • ما الذي تحتفظ به ذاكرتك من طفولة الحارة وحارة الطفولة؟ •• في الحقيقة، رغم أني عشت سنوات تكويني في حارة المظلوم، إلا أن علاقتي بالحارة كانت عامودية، أي أنني كنت أعايشها من الأعلى ومن خلف أشياش النوافذ. لم يسمح لي والدي بالانخراط في أجواء الحارة وكان بيتنا حدودي، وإن كنت أرقب الأطفال وهم يلعبون، وأسمع أصوات الباعة في عصر كل يوم، وأتابع المصلين في ذهابهم لمسجد الشافعي المواجه لبيتنا. • هل الحارة أثرى وأدفأ من الحيّ؟ •• هذا أمر مؤكد، فالحارة تاريخ ممتد على مدى مئات الأعوام، وبيوتها القديمة متجذرة في المكان، وأهلها متعارفون منذ زمن الأجداد، وكون البيوت شبه متلاصقة يجعلهم أجزاء متكاملة من حياة مشتركة. • ماذا يعني العيش في مدينة جدة؟ •• لم أدرك معنى العيش في جدة المتجددة إلا حين ابتعدت عنها لسنوات الدراسة في أمريكا، أدركته في عطش عيوني لمياه بحرها، وفي اشتياقي لحميميتها ولحيويتها ولتماسكها وتآزرها، وفي إحساسي بعمق تاريخها مع انفتاحها على الحياة وسهولة تقبلها لأطوار التقدم المتسارعة. أضحوكة كل يوم • ماذا يعني لك الانتماء لبيت باعشن؟ •• عائلتي الممتدة هي أهم شطر من أناي، ولا أستطيع تشكيل تصور مكتمل لذاتي دون غرسها في بيت باعشن. • كيف كان أوّل يوم صيام في حياتك، وهل كان موسم صيف؟ •• لا أذكر متى بدأت الصيام، ولا أذكر إن كان صيفاً أو شتاء، ولكنني أعرف جيداً أن التحدي وُضع أمامي مبكراً، وأن تدريبي بدأ بالصوم نصف نهار ثم امتد إلى يوم كامل، وأن التنافس بين أطفال العائلة جعلنا نصمد ونختبر قدرات بعضنا البعض حتى بعيداً عن رقابة الكبار. • ما موقف والدتك ووالدك من صومك المبكر، وهل أذنا لك أو أحدهما بقطع الصيام بحكم الإرهاق؟ •• كان الجميع يشجع أطفال العائلة على الصوم، وكنا نخجل من قطع الصوم ونصبح أضحوكة ذلك اليوم، إذ يلاحق الجميع قاطع الصوم بأهزوجة: «يا فاطر رمضان يا خاسر دينك». • على ماذا كانت تتسحر الأسرة في ذلك الوقت؟ •• في عائلتنا كان السمك هو وجبة السحور طوال شهر رمضان. أنا لا أسحّر البنات • ما النشاط المنزلي الذي كنت تُكلّفين به؟ •• كنت أشارك في توزيع أطباق «فكوك الريق» قبل المغرب على أهلي في البيت، كل في محله. • ما أبرز ما يسكن الذاكرة عن رمضان؟ •• يسكنني انتظاري للمسحّر كل رمضان وهو يجوب الحارة ويتوقف عند كل بيت منادياً أسماء سكانه من الذكور منشداً لهم: «مسّاك الله بالرضا والنعيم»، وفي كل ليلة كنت أتمنى لو مسّاني أنا أيضاً وناداني باسمي مثل أبناء العائلة، وكان يجيب بجدية مهنية: «أنا لا أسحّر البنات». • كيف تقضين يومك الرمضاني، ما برنامجك الرمضاني من الفجر إلى السحور؟ •• أيامنا هذه العجيبة ما عاد هناك طابع يميزها عن غيرها في رمضان، عدا مواعيد الوجبات وتكثيف العبادات، ما دون ذلك فهو تكرار للأيام الأخرى. • أي الطبخات أو الأكلات أو الأطباق تحرصين على أن تكون على مائدتك الرمضانية؟ •• أحرص على الشوربة والسمبوسك. اتحادية بالوارثة • هل لك ميول رياضية، وما فريقك المفضل؟ •• لا علاقة لي بالرياضة كمشاهدة ومتابعة، وأشعر أنني اتحادية بالوراثة فقط. • هل تتابعين برامج إذاعية أو تلفزيونية، وما هي؟ •• منذ سنوات أقلعت عن هذه العادة، وليس لدي اعتراض عليها، فقط أشعر بالتشبع. • ما حكمتك الأثيرة وبيت الشعر؟ •• حكمتي في الحياة بيتان من الشعر منسوبان للإمام الشافعي، أتمسك بهما ليس تشاؤماً، ولكن من باب الحرص الواجب: لا يكن ظنك إلا حسنا إن سوء الظن من أقوى الفطن، ما رمى الإنسان في مخمصة غير حسن الظن والقول الحسن • اللون الذي تفضلين؟ •• تجذبني الألوان في انسجامها وتشكلاتها أكثر من تفردها. • من هو مطربك أو مطربتك، وما أغنيتك المفضلة؟ •• ما زالت تطربني أم كلثوم، وكل ما تغنيه طرب.زميلاتي بنات العائلة • ماذا ومتى تقرئين وتكتبين في رمضان؟ •• القراءة والكتابة تملي علي أوقاتها، وأنا لا أخصص لها وقتاً محدداً في رمضان أو في غيره. إن كنت منسجمة في قراءة كتاب فهو يلازمني حتى أنهيه، وإن سيطرت على تفكيري مسألة فلا تغادرني حتى أوفيها حقها من البحث والتدوين. • أي فرق أو ميزة كنت تشعرين أنك تتميزين بها عن قريناتك؟ •• كنت منذ طفولتي أميل إلى الفنون، ونَمَت عندي هوايات اختلفتُ بممارستها عن قريناتي، فكنت أرسم وأكتب القصص وأشعّر الكلمات وألتقط الصور، وكُنّ جمهوري الأول: يتابعن ما أقوم به ويشجعنني عليه. • من تتذكرين من زميلات الطفولة؟ •• زميلات طفولتي كن بنات العائلة، فقد عشت في منزل واسع مع عدد كبير من أفراد من أجيال مختلفة، وجميعهن ما زلن حولي أخوات قبل الزمالة. • بتقدم العمر، هل يتراجع عدد الأصدقاء والصديقات؟ •• الذي يتراجع حقاً هو القدرة على اكتساب عدد جديد من الأصدقاء، الصداقات الحقيقية تتجدد وتزداد عمقاً ودفئاً كلما ثبّتت السنوات أقدامها وصلّبت عودها. قلب الظلام • لماذا يسكننا حنين لأيامنا الأولى في الحياة؟ •• لأننا نعلم يقيناً أنها مضت بلا أمل في عودة، وأننا رغم عمق حنينا لها، لا نريد لها عودة. • أي حكاية شعبية شكّلت ذائقتك؟ •• الحكايات الشعبية في مجملها شكّلت تفكيري وحركت خيالي في مراحل مبكرة من عمري، وتربيت على حكاية قبل النوم كل ليلة، وكم من مرة داهمني فيها النوم قبل نهايتها. مسألة تشكيل الذائقة حضرت في مراحل متأخرة من التأمل والتنبه للمعاني الخفية والرسائل الضمنية داخل الحكايات البسيطة. تحضرني حكاية اسمها «العظْمة» تختصر علاقة المرأة بالعالم الخارجي بشكل رمزي مبهر. • أي قصيدة أو رواية أو قصة توزن بماء الذهب؟ •• إذا كان لا بد من الانتقاء فرواية «قلب الظلام» لجوزيف كونراد، قرأتها منذ زمن بعيد، لكن معانيها تتكشف لي كلما كشفت الامبيريالية الاستعمارية الغربية عن وحشيتها. • أي زمن أو عصر كنت تتمنين لو أنك عشت فيه؟ •• يبدأ الأديب الإنجليزي تشارلز ديكنز روايته «قصة مدينتين» بجملة تقول: «كانت أفضل الأيام، كانت أسوأ الأيام..»، ومنها أستنبط أن أي عصر تختاره لتعيش فيه هو في حقيقته خليط من الأفضل ومن الأسوأ.. لا اختيار سيصنع فرقاً.