تنبعث رائحة الخبز السّاخن المدهون بالسمن مختلطة برائحة القهوة من مطبخ البيت، وينبعث أذان السحور من الجامع غير البعيد عن بيتنا كاسراً ذلك الهدوء المهيب. تلامسني يد أمي بحنان لا يمكن وصفه، فأستيقظ متحمسّة لتناول السحور معها وأبي. حين تجهز طاولة السحور يتوقف صوت أبي الذي كان يرتل ما تيسّر من القرآن الكريم، وينضم إلينا، وستعجز كل لغات العالم هنا لوصف الدفء الذي كان يملأ تلك الغرفة، أمّا لذّة الخبز وحليب الماعز الطازج فلم أذق مثلهما مرة أخرى أبداً. كانت نهاية سبعينيات القرن الماضي، وكنت أتدرّب على الصوم، وأتشبّع بقصص أبي بعد صلاة الفجر، بحيث يغمرني ببرنسه، وأنا منكمشة في حضنه، فيروي لي ما حفظه من حكايات وأشعار، إلى أن يسرقني النوم. سأتذكّر حين أصحو أني لم أسمع نهاية الحكاية، وسيعدني أبي أنه سيروي لي البقية مساء بعد صلاة التراويح. لكن مجدّدا يسرقني النوم قبل أن يعود من الجامع، ليتجدد موعد الحكاية عند السحور. لا مغالاة في طقوس الصوم، ولا مغالاة في طاولة الطّعام، لا مسليّات غير حكاية السُّحور، وحفظ الحكمة الوحيدة التي لكثرة ما ردّدها عليّ أبي اقتنعت بقدرة الصوم على الحفاظ على صحتنا. التّذمّر من الصوم ظاهرة تعرفت عليها في المدن الكبرى، في وسط العمل، وفي أوساط أخرى جعلتني الأقدار أخالطها. كنت أختفي طيلة شهر رمضان مستقيلة من الحياة بأكملها لأصوم كما أحب، وكان ذلك الأمر يثير الأسئلة لدى معارفي وأصدقائي. وكان يجب أن يظهر الدكتور إيريك بيرج إلى الوجود ليدعم نظريتي في اشتهاء صوم رمضان، حتى أرد بشكل علمي على كل من يناقشني في الصوم رغم إصابتي بالسكري من النوع الثاني. كانت كل شروحاتي انطلاقاً من تجربتي الشخصية لا تقنع أحداً، حتى انبثق هذا الطبيب من العمق الأمريكي، ليقنع أغلبية من أعرف، رغم محاربة البعض له. غير الرّاحة النفسية التي أشعر بها خلال الصوم، واعتدال نسبة السكر في دمي، كنت أستحضر ذكرياتي القديمة وأعيش فيها كما لو أنني مازلت طفلة. وإلى زمن قريب كنت أكتب نصوصي بعد صلاة الفجر، على الأقل أنجزت رواياتي الأربع في هذا التوقيت في أيام رمضان، قبل أن أصاب بداء الصفحة البيضاء، وأنغمس في العمل التلفزيوني الذي يأكل وقتي أكلاً. صحيح أن المجتمعات الإسلامية تتحضر لهذا الشهر ببذخ كبير، لكن هذا ليس انعكاساً لفرحها بالصوم، بل لخوفها من الجوع، وإلاّ ما الدّاعي من إفراغ الأسواق من اللحوم والحلويات وكلّ ما لذّ وطاب؟ إن الصوم قديم قدم الإنسان، فقد اهتدى إليه الإنسان لعلاج أمراضه قبل معرفة الأدوية، وفي دراسات مدهشة عن الصوم لدى الحيوانات، نقف حائرين أمام المعجزة الرّبانية في لجوء الحيوان إلى عزل نفسه عن القطيع والصوم حتى يشفى أو يموت.