كانت اللغة العربية لغةً محكيةً مرتبطةً بسليقة أهل الجزيرة العربية، تثريها بيئتهم بما يناسبها من تعابير وألفاظ. ومع اتساع رقعة بلاد المسلمين، وشروعهم في بناء الدولة، كثُرت المراسلات بينهم، وقادت فتوحاتهم شعوباً لم تنطق العربية قط، فصارت الحاجة ملحة لضبط قواعد اللغة العربية حفظاً لها مما يخالطها من الشوائب التي تشوبها.. وقد كان ذلك أمراً شبه مستحيل، لولا وجود عدد من علماء اللغة الذين رهنوا حياتهم لها، ومن هؤلاء: ابن فارس وهو أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا القزويني الرازي، المتوفى سنة 395ه في مدينة الري. غلب عليه الاهتمام باللغة؛ رغم أنه ألّف في النحو والفقه والتاريخ وتفسير القرآن والنحو والتاريخ والفقه حتى بلغت مؤلفاته 46 مؤلفاً، أخذ علماً من أعيان البيان كبديع الزمان الهمذاني والصاحب بن عباد. وله معجم مهم في اللغة، هو معجم (مقاييس اللغة)، وله كتابا (اختلاف النحويين) و(تمام فصيح الكلام)، وغيرهما. وهو أول من قدم في اللغة العربية مصطلح «فقه اللغة» وطرح نظرية في نشأة اللغة العربية أطلق عليها التوقيفية، ووضع المقامات وجعلها علماً. ويعتبر كتابه في فقه اللغة المعروف (بكتاب الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها) من أهم كتبه على الإطلاق، الذي أهداه للصاحب بن عباد، وكذلك معجمان هما: معجم (مقاييس اللغة)؛ الذي استفاد فيه من كتاب العين لفراهيدي وجمهرة ابن دريد وإصلاح المنطق لابن السكيت. ومعجم (المجمل) في اللغة؛ وهو معجم موجز في اللغة الفصحى، استبعد منه النادر والغريب، ورتب الألفاظ فيه حسب أولها بحسب للترتيب المشرقي في حروف الهجاء، وله مصنفات ورسائل وتخرج به أئمة. كان لابن فارس الرازي صلة ببلاط الدولة البويهية وبابن العميد، وكانت له علاقة بالمنادمة والمكاتبة في البلاط. ويعدّ رأساً في الأدب، مناظراً، متكلماً على طريقة أهل الحق، ومذهبه في النحو على طريقة الكوفيين. أحسن صنعة الشعر، وكان نقادةً فيه، وله شعره الذي ينمّ عن ظرف، ورقة، وحسن تأتٍّ. وامتاز بأخلاق العلماء؛ فقد كان ورعاً تقياً شديد التواضع، وفياً لأساتذته، براً بهم، أميناً في النقل عنهم. وكان جواداً كريماً لا يكاد يردّ سائلاً، حتى إنه كان يهب ثياب جسمه، وفرش بيته.