إن المحلات التجارية في عصرنا ليست إلا معارض يجد فيها الشخص كل ما يخطر بباله، تتوالف هذه المعارض مع تسهيلات مالية متعددة مثل القروض البنكية وإمكانية استخدام بطاقة الصرف الآلي دون الحاجة إلى حمل النقود الورقية وبطاقة الائتمان. الكل يشتري، والكل يسعى لملء الفراغ الداخلي والوصول إلى السعادة التي يبحث عنها في متعة الشراء، ويستمر المستهلك في شراء البضائع التي لا يحتاجها بالمال الذي لا يملكه. إن التفنن في الإنتاج والتسويق من طرف، وسهولة الاقتراض والشراء من طرف آخر، إضافة إلى الأساليب النفسية المصاحبة للتلاعب بنفسية المشتري وترويضه على سلوك يتقبل فيه سلطة السوق، تجعل الإنسان المعاصر خاضعاً لعبودية البنوك والشركات العالمية الكبرى. ولكن إذا تأملنا أكثر فسنجد أن هذه العبودية البنكية نابعة في الأصل من طبيعة النفس الإنسانية، النفس التي يسيل لعابها لرؤية كل منتوج مغر. إن الرغبة الشديدة في الاستهلاك التي تحولت إلى هواية لدى البعض ولاسيما الجنس الناعم تجعلنا أكثر بؤساً. لقد وُلدت مشكلات اقتصادية ونفسية عديدة للإنسان في هذا الزمن بسبب رغباته المتأججة وشهواته العارمة وسعيه باندفاع للتكاثر المادي والسلعي. يرى البروفيسور د. كاثمن الأستاذ بجامعة برنستون أن عدم القناعة وكذلك الانسياق مع ما تهواه النفس يعتبران من الأسباب الرئيسية للاكتئاب والاضطرابات النفسية في الإنسان المعاصر. ويعتقد بيري شوارتز الأستاذ بجامعة ستانفورد أن المشكلة الكبرى للنفس الإنسانية هي مُعاناتها من الاكتئاب والضيق وفُقدان الأمل وعدم القناعة والعجز عن السيطرة على الرغبات والمطامع. هنا يأتي الصوم ليساعدنا على تقوية العزيمة وإبعاد الروح الانهزامية في مواجهة أهواء النفس. ومن المضحك المبكي أن يقوم الكثيرون منا بخرق ثقافة الصوم بالتسوق المكثّف أثناء الجوع وكأنهم يريدون أن يلتهموا ما يشتهونه بأعينهم، بعد أن منعهم الصوم من التهامه بأفواههم. إن سُلطة الغرائز وسيطرة الشهوات هي أخطر وأعتى سلطة، وهي المنبع الذي تصدُر عنه جميع أنواع الدناءة والخسة والرذيلة. وفي هذا السياق يأتي الصوم ليدربنا على القضاء على سلطان الهوى ومن ثم إزالة غبش الجشع والهوس عن قلوبنا وعقولنا وأفكارنا. وقد أوصانا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقاعدة ذهبية في هذا المقام في مقولته الشهيرة: «أكُلّ ما اشتهيتم اشتريتم؟» * محاضر بجامعة (إس إم يو) بولاية تكساس الأمريكية سابقا