بقلم أ- محمد النمري أي منصب في الدنيا صغر أم كبر ، يعكس في نفس صاحبه جمالا يصغر ويكبر بحسب علم صاحب المنصب بالمعاد وحقارة الدنيا والوقوف أمام المولى عز وجل ، والمنصب منحة من المولى عز وجل للإنسان لينظر كيف يعمل فيه ، فإن شكر وأحسن كان خيرا له ، وأن أساء وتكبر وتعدى وظلم كان وبالا عليه في الدنيا والآخرة. والمنصب لا يدوم لأحد مهما طالت السنون ، بل إن الدول على كبر حجمها ودقة تنظيمها لا تدوم ، وطول عمرها مرهون بالالتزام بسبب البقاء الذي نص عليه مالك الملك مدبر الأمور ( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وأتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور) هذه هي سنة الله في خلقه لا تتبدل ولا تتغير ، وهي مشاهدة في الخلق والدول منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها. فإقامة العدل من المعروف الذي أمر به الله ، لذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : "إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة" وهذه القاعدة تنسحب على الولاية الكبيرة والصغيرة في الدولة ، وتنسحب أيضاً على المناصب ماصغر منها وما كبر ، فالجميع يعمل في الدولة في منظومة متكاملة ومتناسقة لتحقيق الأمر الذي أراده الله عز وجل ، وهو إقامة العدل في الأرض ( ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) فهذا نبي الله داود يحذره ربه أن يضل وهو نبي فغيره أولى. لذلك حذر نبينا عليه الصلاة والسلام أصحاب المناصب من الظلم ، وأمرهم بالعدل ، وحمَل لواء التحذير والنصح خيرته من خلقه من العلماء والناصحين ليبينوا لصاحب المنصب ماله وماعليه ويأخذوا بيده إلى بر الأمان. فالخلفاء الراشدون وأمراء المؤمنين في الدول الإسلامية المتقدمة اتخذوا الوعاظ والعلماء مستشارين لهم يدلونهم على الخير ويحذرونهم من الوقوع في الشر فجمع التاريخ من سيرهم في هذا الباب الشيء الكثير. قال عليه الصلاة والسلام لأبي ذر ( إنها أمانه وإنها خزي وندامة يوم القيامة ) فالواجب على من تقلد منصبا أو تولى ولاية أن يتقي الله فيمن تولى عليهم وأن يعاملهم بالحسنى ويرفق بهم ولا يشدد عليهم . روى مسلم عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِمَاسَةَ ، قَالَ : " أَتَيْتُ عَائِشَةَ أَسْأَلُهَا عَنْ شَيْءٍ ، فَقَالَتْ: مِمَّنْ أَنْتَ ؟ فَقُلْتُ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ ، فَقَالَتْ: كَيْفَ كَانَ صَاحِبُكُمْ لَكُمْ فِي غَزَاتِكُمْ هَذِهِ ؟ ، فَقَالَ: مَا نَقَمْنَا مِنْهُ شَيْئًا، إِنْ كَانَ لَيَمُوتُ لِلرَّجُلِ مِنَّا الْبَعِيرُ فَيُعْطِيهِ الْبَعِيرَ، وَالْعَبْدُ فَيُعْطِيهِ الْعَبْدَ، وَيَحْتَاجُ إِلَى النَّفَقَةِ ، فَيُعْطِيهِ النَّفَقَةَ ، فَقَالَتْ: أَمَا إِنَّهُ لَا يَمْنَعُنِي الَّذِي فَعَلَ فِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَخِي أَنْ أُخْبِرَكَ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَقُولُ فِي بَيْتِي هَذَا: ( اللهُمَّ، مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ ، فَاشْقُقْ عَلَيْهِ ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ ، فَارْفُقْ بِهِ ) قال المناوي رحمه الله : " (اللهم من ولى من أمر أمتي شيئا) من الولاية كخلافة ، وسلطنة ، وقضاء ، وإمارة ، ونظارة ، ووصاية ، وغير ذلك ؛ نكرة ، مبالغة في الشيوع ، وإرادة للتعميم (فشق عليهم) أي حملهم على ما يشق عليهم ، أو أوصل المشقة إليهم بقول أو فعل ، ( فاشقق عليه) أي أوقعه في المشقة ، جزاء وفاقا ( ومن ولى من أمر أمتي شيئا فرفق بهم) ، أي عاملهم باللين والإحسان والشفقة ( فارفق به) ، أي افعل به ما فيه الرفق له ، مجازاة له بمثل فعله .. انتهى من " فيض القدير" (2/ 106) . والكبر والغطرسة الذي يصاحب المنصب في بعض الأحيان ويتلبسه الضعفاء والجهلاء ممن ابتلاهم الله بهذه المناصب ، هي شؤم ومذلة تسقط صاحب المنصب من قلوب الخلق قبل أن يسقط من عيونهم ، حتى وإن دوهن وصفق له اتقاء شره ، فالقلوب تبغضه والعيون تحقره. وإن من الواجب على من قلده الله منصبا في هذه الفانية أن يتواضع للخلق مهما كانت منزلتهم وان يرحم ضعيفهم ويوقر كبيرهم وأن يحفظ لكل ذي قدر قدره ، فقد يكون المستخدم في العمل ذو جاه في مجتمعه اضطرته الدنيا للعمل بهذه المهنة ليقتات منها ، فظلم أن يهان وظلم أن لا تحفظ مكانته ويهدر قدره ، و( إن من إجلال الله عز وجل إكرام ذي الشيبة المسلم) كما قال عليه الصلاة والسلام ، ولا ينبغي لصاحب المنصب أن ينسى أنه ما وضع إلا ليكون خادما للخلق لا لأن يتعالى عليهم. كما أنني أسلي من يعاني من أمثال هؤلاء المتكبرين المتغطرسين على خلق الله ، أنه سيطأ بقدمه هذا المتكبر وأمثاله يوم الحشر ، كما أخبرنا بذلك الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام. كما ينبغي للمحتسبين من أهل العلم إذا علموا تقصيرا وظلماً فيمن تقلد منصبا كان من كان أن يقدموا إليه النصح فإن تمادى وأبى فإنهم يرفعون بأمره إلى ولاة الأمر للمطالبة بعزله لكف أذاه وظلمه وبهذا ينجو المجتمع من عاقبة الظلم والظالمين. وأخيرا فكلنا خطائون وخير الخطائين التوابون فنسأل الله التوبة من الظلم والكبر والعجب.