«بدأت بإقراض الفقراء من جيبي» هكذا قال محمد يونس البروفسور البنغلاديشي، الذي نال جائزة نوبل، وخمسين جائزة عالمية، وأكثر من مائة وخمسين شهادة من أرقى المؤسسات العالمية والجامعات المعتبرة. قالها في ورشة إدارة المؤسسات غير الربحية في نسختها الثانية، بحضور عددٍ من المدرّبين العالميين، ومئات من قيادات العمل الخيري والاجتماعي في المملكة العربية السعودية، التي أقامتها بوعي عميق جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، بشراكة إستراتيجية مع مؤسسة عبدالرحمن بن صالح الراجحي الخيرية وعائلته. لقد تدفقت من داخل هذا الإنسان العظيم نافورة بهية الأضواء، كل كلمة كانت تنبع من داخله تتوغل في دواخلنا فورًا، رجل يعرف جيدًا لماذا هو يعيش في هذه الحياة، بل قال بكل وضوح: «كل منا لابد أن يعرف لماذا هو في هذه الحياة؟» أي لابد من وجود هدف سام عظيم يجعل من الواحد أمة، أرادها لنفسه فوصل إلى بغيته، وأرادها لأمته فأصرّ على أن تناقش هذه المسألة في المدارس والجامعات، لتتعلمها الأجيال المتلاحقة، وهو ما لا تفعله أكثر المدارس كما قال أيضًا. الجميع يركض للحصول على ما يُسعده؛ فيظنها في الجاه أو في المال أو الجنس أو في الشبع أو ...، والحقيقة أن خدمة الناس والسعي في حاجاتهم هما ما يحققان تلك السعادة التي يبحث عنها كل هؤلاء، سواء كان فرديًا؛ بالعطاء والخدمة والصدقة والشفاعة و...، أو مؤسسيًّا بالمشروعات التي لا حدّ لها، بل هي بعدد الاحتياجات البشرية الممتدة والواسعة في الوقت نفسه. وقالها يونس أيضًا: «من مصادر السعادة أن تسعد الآخرين، وهذا حافز يفوق حافز الأرباح المادية. يجب أن نعلّم ذلك أولادنا». لقد حاول محمد يونس أن يُحدث تغييرًا في النفسية الربوية لدى البنوك؛ بأن يقرضوا الله قرضًا حسنًا؛ فيعطوا الفقراء من هذه الأموال المكدّسة؛ ويستعيدوها منهم دون فوائد، ويرى أن هذا أفضل من منحهم المال منحة، ولكنهم لم يستمعوا إليه، فأعطاهم من ماله الخاص، فوُصِمَ بالجنون، فأخذ بذلك شهادة الإبداع، واتجه إلى إنشاء (بنك الفقراء)، الذي تحوّل خلال سنوات محدودة إلى أكثر من ستين مؤسسة، بطاقة مالية قدرها مليار ونصف المليار. (رجل واحد) قدّم حلولًا لعددٍ من المشكلات المعقدة في بلاده؛ الكهرباء التي كانت معدومة في كل أرياف بنجلاديش، والتعليم الذي لم يكن يصل إلى الفقراء وهم الأكثر، والملاريا التي كانت تفتك بهم، والأغذية الصحية التي لا يستطيعون توفيرها، وغيرها.. بطرق حديثة وسهلة وذكية جدًا. أزعجتنا كلمته حين قال: «لا تصنعوا حديقة حيوان من البشر» كلمة قاسية جدًا، أراد بها ألا نحوّل الأسر الفقيرة إلى أسر مستهلكة، تأكل وتشرب ولا تعمل. حين رأى في بنجلادش نقصًا في الممرضات، قام باستقطاب بنات الفقراء لتعليمهن التمريض، ثم وظّفهن، فعالج بذلك الأمية والفقر والبطالة في وقتٍ واحد. لم يعُد (بنك الفقراء) مجرد فكرة محصورة في دولة واحدة، بل أصبح أنموذجا تطلب الدخول معه في شراكات كبريات الشركات العالمية، أو لتستنسخه في عواصمها ومدنها الكبرى. وهكذا تنمو الفكرة المخلصة، البعيدة عن الطمع المادي، لتصبح شمسًا تضيء الكون كله، وكلمة طيبة تؤتي أكلها كل حين، ورجلا مباركًا أينما كان.