د. عبد الله الحريري - الاقتصادية السعودية تتعالى الأصوات التي تطالب بالحرية على طريقتهم، حتى غدت موضة أو إذا صح التعبير ""برستيج"" لكل من يبحث أن يكون له مكان في الداخل أو الخارج، ويريد أن يعوضه بهالة من التميز، بل البعض عندما يتحدث عن الحريات والحقوق يطلقها مرسلة على علاتها ليوجه رسالة للآخرين، مفادها أنني مثقف مطلع صاحب رؤية. لأن هذه الأصوات خاصة تلك التي تعترض على الأحكام القضائية أو التي تشكك في ثوابت الأمة ومسلماتها ومبادئها وقيمها، تفتقر إلى الجانب الآخر المهم من متطلبات وشروط الحرية، وهي المسؤولية وطبيعة الجوانب الثقافية لكل مجتمع. بل يفتقرون إلى روح الحرية ومعناها الأصيل والعميق، والكثير منا يعرف القول المشهور ""الحرية تتوقف عند مصادرة حرية الآخرين""، فلا حرية مطلقة، ولا حرية منفلتة، ولا حرية دون ضوابط وقيود، حتى في أكثر المجتمعات ديمقراطية وتحررية، مثل الولاياتالمتحدة، بل وفي فرنسا أولى الديمقراطيات في العالم، للحرية ضوابط وقيود وشروط ومناهج والكل يعرف قانون منع الحجاب، عرفها من عرف وجهلها من جهل. إذن ما الحرية التي يتنادى بها الكثر في هذا الزمن؟ ألا تعتبر مثل هذه الدعوات أداة تستخدم لكل من يريد زعزعة وخلخلة الأمن والاستقرار الاجتماعي في مجتمع وفق أهداف سياسية أو ثقافية أو أجندات إما داخلية وإما خارجية. سأورد أمثلة لأهم فلاسفة الغرب عندما تحدثوا عن الحرية، فهذا هو الفيلسوف الشهير إمانويل كانت، من فلاسفة القرن الثامن عشر وهو بالمناسبة يعد من آخر الفلاسفة المؤثرين في أوروبا الحديثة في التسلسل الكلاسيكي لنظرية المعرفة خلال عصر التنوير، يقول: ""لا أحد يستطيع إلزامي بطريقته كما هو يريد لأصبح فرحا ومحظوظا. كل يستطيع البحث عن حظه وفرحه بطريقته التي يريدها وكما يبدو له هو نفسه الطريق السليم، شرط ألا ينسى حرية الآخرين وحقهم في الشيء ذاته"". وهذا شاهد آخر من كلمات أحد أهم فلاسفة الاقتصاد البريطاني ويعد واحدا من كبار أهل العلم والمعرفة في القرن الثامن عشر وهو الفيلسوف جون ستيورات ميل، حيث قال:"" السبب الوحيد الذي يجعل الإنسانية أو جزءا منها تتدخل في حرية أو تصرف أحد أعضائها هو حماية النفس فقط، وإن السبب الوحيد الذي يعطي الحق لمجتمع حضاري في التدخل في إرادة عضو من أعضائه هو حماية الآخرين من أضرار ذلك التصرف"". لكن لنسمع مقولة الدكتور جون لوك، الذي يعد واحدا من أكبر دعاة الحرية في التاريخ الحديث، بل يعد أن له دورا كبيرا في الثورة الأمريكية بسبب كتابه ""رسالتان في الحكم"" والذي كان محط إعجاب الأمريكيين في تلك الحقبة، حيث قال:"" الحرية الكاملة هي التحرك ضمن القوانين"" وهناك عشرات العشرات من المقولات لكبار دعاة الديمقراطية والحرية من فلاسفة وعلماء وغيرهم الكثير، ممن كتب وألف في هذا الجانب، جلهم، انصبت كلماتهم وآراؤهم على الحرية المسؤولة المنضبطة بمصلحة الجماعة، لا بنزوة فرد أو لخلاف شخصي أو رغبة في سلطة ومكانة اجتماعية. يؤلمني هذا الحديث عن الحريات وكأننا نعيش في أتون غابة لا قانون ولا دين ولا مبادئ أو قيم تحكمنا. ووسط هذا جميعه يغيب الحديث عن المسؤولية، وعن أهميتها في السلم الاجتماعي والرقي الحضاري، المسؤولية التي نتجاهلها ونغذي أطفالنا يوميا تجاهلها وإهمالها، فيتم تجاوز الإشارة الحمراء ويتم إلقاء النفايات في الشوارع أمام المركبات وفي الحدائق، ونرى المفحط يشجع من الجماهير، ومن يزور ويهرب ويعصي ولي الأمر لكي يحج، ونسمع بمشاجرات في الشوارع بين المراهقين وعنف وعصبية واقتناء الأسلحة وتوتر داخل المدارس، وحالات مرتفعة من الطلاق والخلع بسبب عدم قيام أحد الزوجين بمسؤولياته الأسرية، وما يحدث من شائعات وشتائم ودسائس وهبوط في الحوار والتعبير في مواقع التواصل الاجتماعي، وكل يوم تلفحنا أخبار الجرائم الأخلاقية والرشوة والفساد، وقبل هذا وبعده لا أحد يتحدث عن مسؤوليته أمام أسرته ووطنه ومجتمعه، وقبلها أمام الله، ثم نسمع الأصوات تعالت تطالب بالحرية. كيف نفهم هذه الحرية، في ظل غياب المسؤولية الفردية أولا، وكيف سيكون حالنا لو ترك العنان لهذه الفئات ومنحت المزيد من التسهيلات بإشغالنا بحجة الحرية؟ الذين طالبوا بإلغاء نظام ساهر، ووصفوه بنظام جباية، أليسوا هم الذين سجلت عليهم مخالفات تجاوز السرعة أو الوقوف على خط المشاة أو قطع الإشارة الضوئية وهي حمراء؟!، أليسوا هم الذين يسافرون خارج المملكة وتجدهم نظاميين وملتزمين بقوانين السير واحترام حقوق الآخرين في الشارع؟ لماذا تغيب عنهم هذه المثل والقيم عندما يكونون بين أهلهم وفي وطنهم، لماذا يريدونه وطنا من الفوضى واللامبالاة دون قوانين أو أنظمة؟