هل عندنا فقهاء؟! وهل ما يدعونه (فقيههم) هو فقيه حقا؟! وهل فقهاؤنا أعلم أم فقهاؤهم؟! وهل فقهاؤهم أزكى أم فقهاؤنا؟! هذه الأسئلة تتكرر في المجالس حين تتردد فتوى جديدة غير مألوفة في مجتمع ما، فيقال هل فلان فقيه؟! وهل هو أعلم من فقهائنا؟! إلى آخر تلك الأسئلة. تحمل هذه الألقاب هالة ورمزية عالية في المجتمعات الإسلامية، ومهما قيل عن بشرية الفقيه، فإننا لا نستطيع أن ننكر الهالة الكبيرة التي تصحب عمامة الفقيه، أو اللباس الدارج له في بلد ما، والتي تمنحه تصريحا للحديث في شتى شؤون الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتعليمية فضلا عن الدينية، والناس تستمع إليه بثقة مفرطة، حتى في وجود المتخصصين، والمفارقة العجيبة في هذا الموضوع أن معيار (الفقيه) يبدو غير واضح عند الناس، ولاحظ أني أقول الناس وليس كتب أصول الفقه التي تتحدث عن شروط المجتهد، فالناس تعطي هذا الاسم وتمنعه لأسباب مختلفة. من المعايير التي تشدد عليها بعض التيارات والأحزاب، أن كل المعايير هامشية بجانب معيار واحد رئيس وهو تزكية العلماء، وهو معيار حزبي وكهنوتي بامتياز، فحين يصبح وصف الفقيه بيد أشخاص محددين يعني أن ثمة تحكما بهذا الوصف، وبالتالي ستكون التزكية محصورة بيد العلماء الذين يرتضيهم هذا الاتجاه أو ذاك، ومن لا يحظى بالتزكية سينزع عنه الوصف ولو كان عالما، وسيمنح الوصف لمن هو على طريقتنا ومنهجنا، أما الآخرون فسيكونون أصحاب أهواء وبدع وضلالات. ماذا لو حاولنا أن نكتشف معيار الناس في إضفاء هذا الاسم أو منعه، فهل تصلح الدراسة الأكاديمية - مثلا - معيارا لهذا التصنيف؟!، تجد شابا تخرج من إحدى الكليات الشرعية، وله هيئة تدل على هذا التخصص، وله صوت ندي وصار إماما لأحد المساجد، وربما مأذونا للأنكحة، فتجده عند الناس صار فقيها، ويفتي في كبار الأمور وصغارها مع أن عمره ربما لم يتجاوز الخامسة والعشرين. معيار الناس هنا يعود إلى معطيات قد تكون حقيقية وقد تكون موهمة، فالجميع يتفق على أن مجرد الدراسة الأكاديمية والوظيفة وإمامة المسجد لا تجعل من المرء فقيها، وبالتالي يكون وصف (الفقيه) هنا مبنيا على معطيات اجتماعية فضفاضة أكثر من كونها علمية ودقيقة، بل إن أكثر ما يدهش في وصف الفقيه هو الهيئة الخارجية، كاللباس الأزهري، أو لباس العلماء وعمامتهم في تركيا والشام، أو الهيئة المعهودة عندنا في السعودية والخليج، فهو معيار مؤثر في انطباع الناس بشكل كبير ومدهش. من المعايير العنصرية المزعجة تلك التي تعود إلى البلدان والمناطق، فعلماؤنا هم الأعلم والأفقه، فقط لأنهم من أهل هذه البلاد، وكأن ثمة روحا وبركة حطت علينا، وامتنعت عن غيرنا، ويتم تغليف هذا المعيار العنصري بأشكال علمية، كأن يقال إن العلم في هذه المنطقة صاف وخال من البدع مثلا، والعنصرية كداء السرطان لا تتوقف وليس لها نهاية، فتنشأ عنصريات داخل المنطقة الواحدة، ويتحول العلم إلى عوائل، وكأن ثمة جينة (علمية) نقية طاهرة من البدعة تتناقل عبر نسل محدد. من المعايير التي تشدد عليها بعض التيارات والأحزاب، أن كل المعايير هامشية بجانب معيار واحد رئيس وهو تزكية العلماء، وهو معيار حزبي وكهنوتي بامتياز، فحين يصبح وصف الفقيه بيد أشخاص محددين يعني أن ثمة تحكما بهذا الوصف، وبالتالي ستكون التزكية محصورة بيد العلماء الذين يرتضيهم هذا الاتجاه أو ذاك، ومن لا يحظى بالتزكية سينزع عنه الوصف ولو كان عالما، وسيمنح الوصف لمن هو على طريقتنا ومنهجنا، أما الآخرون فسيكونون أصحاب أهواء وبدع وضلالات، وليس لهم شيوخ معروفون، ولم يتلقوا العلم بالطريقة الصحيحة، فقط لأنهم ليسوا منا نحن أصحاب الصراط المستقيم. ماذا لو حاولنا اقتراح معيار علمي، هل من الممكن أن تكون القدرة على شرح وتفكيك وتحليل كتب السابقين معيارا جيدا؟! في الأوساط العلمية الشرعية يعد من يشرح متنا علميا أو كتابا فقهيا عالما متمكنا، إذن هو عالم لأنه يستطيع أن يفهم ما قاله القدماء، وكثير من العلماء الذين يشهد لهم بأنهم قدموا الكثير والكثير للأمة، يتم الاستدلال على ذلك بأنهم قضوا حياتهم في التدريس وشرح الكتب ووضع التعليقات والحواشي، ومهما قلنا في نقد هذا المعيار لكنه على الأقل فيه جانب علمي. ماذا لو حاولنا أن نضع معيارا يجعل من الإنتاج مؤشرا ودالا على الفقه والعلم؟! فأصحاب المذاهب الأربعة رحمهم الله كانت منقبتهم في تأسيس مذهب فقهي، بمعنى أنهم بنوا نظرية في الفقه، والإمام الشافعي مثلا كتب (الأم) كنظرية لطريقة الاستدلال من القرآن والسنة بعد انقطاع الوحي، إذن نحن أمام حالة منتجة ومبدعة، ماذا لو حاولنا تطبيق هذا المعيار على العصر الحديث؟! هل سنكون أمام ورطة كبيرة في وصف الفقيه؟! الخلاصة أن معيار الناس يدور غالبا حول معايير اجتماعية، خصوصا في المجتمعات الدينية، وتحرص الأحزاب والتيارات على مسك زمام الأوصاف بيدها، فتحصر وصف الفقيه بمن ينال تزكيتها، وتتفاقم المشكلة في الدول التي تعاني من أزمة حقيقية في الحريات ومؤسسات المجتمع المدني، حيث لا يظهر وينال وصف الفقيه إلا من رضي عنه السياسي، وبالتالي لن يكون الأكثر حضورا في الإعلام والأشد حظوة في المناصب الدينية هو الأعلم والأفقه.