صدمت وأنا أستمع لخطيب المسجد الحرام الدكتور عبد الرحمن السديس ، وهو يعلق في خطبته عن بعض االفتاوى والآراء الدينية التي طرحت هذه الأيام ، حيث تحدث عن الغش ، ومما قال : (( وكذا غش الأمة في دينها، ومصادر تلقيه، في وقت كثر فيه المتعالمون والممتطون لصهوة القول على الله بغير علم، والمتقحمون لمقامات الفتيا وهم ليس منها في قليل ولا كثير، غافلين عن آثار آرائهم في المجتمع ومآلاتها في الأمة، في حل سحرٍ، ورضاعٍ، وغناءٍ، واختلاط، وسواها )) ، ثم يطالب بالحجر على أصحاب هذه الآراء فيقول : ((:\"ولعل من الحزم الحجر على أمثال هؤلاء، فالحجر لاستصلاح الأديان، أولى من استصلاح الأبدان\")) ، وإذا تجاوزنا أن بعضا ممن أصدر تلك الفتاوى يعد في مرتبة كبار الفقهاء ، فثمة أمران غفل عنهما الخطيب وهما ؛ الأمر الأول: أن الخطبة في المسجد الحرام والمسجد النبوي إنما هي موجه لعموم المسلمين في كل العالم الإسلامي ، وجل الفتاوى والآراء التي هاجمها الخطيب ، وطالب بالحجر على أصحابها هي من المعمول به في غالب الدول الإسلامية ، ويتبناها فقهاء تلك الدول ؛ فهل يفهم من الخطيب أنه يدعو إلى الحجر على فقهاء الأمة ممن يقول بمثل هذه الآراء وهم الأكثرون ؟! الخطأ الفادح الذي غفل عنه الخطيب أنه اختصر المسلمين ، والفقه الإسلامي والآراء الدينية بما عليه مجتمعنا ، وغفل أنه يتحدث من منبر موجه للأمة الإسلامية كلها في مشارق الأرض ومغاربها . الأمر الثاني : أن الخطيب قفز على حقائق الفقه الإسلامي ، وسيرة الفقهاء على مدى التاريخ الإسلامي كله ، فاختلاف العلماء في استنباط الحكم ، وإصدار الفتاوى ظاهرة طبعية وجدت منذ وجد تفسير النص الشرعي؛ فقد اختلف الصحابة في فتاويهم في مسائل عديدة ، ومن بعدهم اختلف التابعون وأتباع التابعين ، ونشأت مذاهب كثيرة فأصبح لكل عالم مشهور مذهب ، وفتاوى خاصة إلى أن استقرت المذاهب الأربعة المشهورة كل هذا نتيجة من نتائج اختلاف الفتوى ؛ لأن العلماء يختلفون في أفهامهم ، ويختلفون في أصول الاستنباط، وفي الحكم على الأحاديث من حيث الصحة والضعف ، وفي فهمهم لدلالة الحديث من حيث العموم والخصوص ، والمجاز والحقيقة ، وقد ألف بعض العلماء كتبا في الأسباب التي أحدثت الخلاف بين العلماء ؛ ومن أشهر العلماء الذين ألفوا في هذا المجال ابن تيمية في كتابة ( رفع الملام عن الأئمة الأعلام ) وابن السيد البطليوسي في كتابه المشهور ( الإنصاف في التنبيه على المعاني والأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين في آرائهم ) ، وحينما ألف بعض أصحاب الإمام أحمد كتابا في اختلاف الفقهاء وسماه ( كتاب الاختلاف ) ، قال له الإمام أحمد سمه ( كتب السعة ) . ونتيجة لشيوع الاختلاف بين المفتين في المسألة الواحدة طرحت مسألة في أصول الفقه وهي مسألة ( إذا اختلف المفتون فما الذي يلزم المستفتي حيال ذلك ؟ ) للأصوليين في ذلك سبعة أقوال وهي : يأخذ بأغلظ الأقوال أو بأخفها ، أو يتخير ، أو يأخذ بقول الأعلم ، أو الأورع ، أو يعدل إلى مفت آخر فينظر من يوافق من الأولين فيعمل بالفتوى التي يوقع عليها أو يجب عليه أن يتحرى ويبحث عن الراجح بحسبه . وإذا كان اختلاف المفتين والفتاوى معروفا في العصور المتقدمة فقد اتسع اليوم نطاق الخلاف جدا نتيجة لثورة الاتصالات الفضائية ، والانترنت وأصبح بمقدور كل من يملك شيئا من العلم أن يطرح رأيه الديني ، فمن الاستحالة الحجر على طلبة العلم و قصرهم على التقليد ، ومن الاستحالة توحيد الفتوى حتى لو أردنا ذلك . وهل معنى هذا أن تترك أمور الفتوى فوضى من دون ترتيب ؟! الحق أنه من الخطأ الدعوة لتوحيد الفتوى بإطلاق ، كما أنه من الخطأ السماح بالفتوى في كل شيء بإطلاق ، فالدعوة لتوحيد الفتوى بإطلاق دعوة إلى إلغاء الاجتهاد ومصادرة الأفهام ، والحجر عليها ، ومخالف للنصوص التي تحث على نشر العلم ، وحرمة كتمه كقول الرسول صلى الله عليه وسلم ( بلغوا عني ولو آية ) ، وقوله صلى الله عليه وسلم ( من كتم علما ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة ) ، وبالمقابل السماح بالفتوى في كل شيء بإطلاق يؤدي إلى الفوضى في تنظيم حياة الناس ، ومعاشهم نتيجة لاختلاف المفتين ، ومن هنا فيجب التفريق بين الفتوى في أمر الناس الفردية ، والأمور العامة ، فيجب إطلاق الفتوى في الأمور الخاصة بالأفراد كالأمور التي تحدث للمرء في صلاته ، وزكاته ، وصومه ولباسه ، وسفره ، وأموره القاصرة عليه ، من لباس ، وسماع غناء ، وغيرها ، ويجب توحيد الفتوى في شيئين : في الأمور العامة التي تنظم أمور الناس وتبحث في تنظيم معاشهم المشترك كالفتاوى في أمور الحرب ، والسلم ، والدماء ، والسياسة ، وكذلك في الأمور التي يترتب عليها حقوق الآخرين من دماء كالتكفير ، أو إثبات طلاق أو نسب . الذين يدعون للحجر على كل من طرح رأيا دينيا يخالف السائد والمتعارف عليه ، يجهلون حقائق التاريخ ، ومسيرة الفقه و الفقهاء كما سبق أن ذكرت ، وهم يجهلون أيضا أن ثمة رياحا تعصف في مجتمعنا ، رياحا تحمل معها تغييرا عميقا في بنية مجتمعنا الدينية والثقافية والاجتماعية ، هذا التغير قدر لا مفر منه ، مجتمعنا لم يعد ذلك المجتمع المغلق ، المجتمع الذي كانت مصادر التلقي لديه محصورة بعالم يفتي أو بعالمين ؛ لقد انفتحت كل النوافذ التي نريدها ، والتي لا نريدها ، وبدلا من الدعوة إلى الحجر ، ونصب محاكم التفتيش ، وإلغاء أي تنوع فقهي أصبح قدرا لا مفر منه شئا أم أبينا ، بدلا من ذلك كله كان المفترض أن يطرح المعنيون بالشأن الديني كيف نتعايش مع هذا الخلاف ؟ وكيف نتحاور ؟ وكيف نعذر من اختلف معنا ؟ وكيف ننقد بعضها نقدا علميا لا استعداء فيه ، ولا إرهاب فكري ، هذا إن كنا نريد الحفاظ على سلامة المجتمع ، ولم يكن الأمر كله محاولة لتسجيل موقف لدى تيار ضد تيار آخر . د سليمان الضحيان كاتب وأكاديي