.. العلماءُ الفقهاءُ في أمّتِنا الهيكلُ الذي يسند الأمةَ لاستقرارها الذهني والوجداني والعقلي متى ما تمتعوا بعلم غزير، وأنفس محبة سمحة، وحكمة واسعة متريثة، وحساب عميق ودقيق لعواقب ونتائج ما يقولون به وما يتصرفون.. ولا يتأتّى للعلماء والفقهاء هذا الدور العظيم إلا في حالة واحدة.. أن يثق بهم الناس. ورحت أتأمل في التاريخ أتابع قصة ظهور دور العلماء، ثم تضاءل هذا الدور.. وجرت أحداثُ التاريخ كشريط أمامي، آخذاً شكل خط بياني بصعود وهبوط تقدير الناس للعلماء والفقهاء. أطالعُ في "تاريخ بغداد"، وأجد عجباً. يُذكر لنا الخطيب البغدادي، كما يخبرنا أيضاً "تاج الدين السبكي" في "طبقات الشافعية الكبرى" أمثلة لا تُحصى لما كان علماء الدين يتمتعون به في العصر الوسيط من إجلال وتوقير. فالسبكي يقول إذا دخل أحد العلماء خراسان خرج أهلها بنسائهم وأولادهم يمسحون أردانه، ويأخذون ترابَ نعليْه ويستشفون به وتلك ممارسات خاطئة، ولكن من خلال نظرة أنثربولوجية دينية تدل على مدى ما يتمتع به العلماءُ من تقدير واحترام وثقة - وكان أصحابُ البضائع يخرِجون بضائعَهم من حلوى وفاكهة وثياب فينثرونها على رؤوس الناس. ويصف "ابن الجوزي" جنازة العالم الفقيه "أحمد بن حنبل" يرحمهما الله، فيقول إنه اجتمع لها ألف ألف من البشر (أي مليون)، وهو رقم هائل في حد ذاته، ولكن قياسا بزيادة البشر الآن فإن الرقم يتضاعف عشرات المرات، وفي رأيي أنها ربما أكبر جنازة في التاريخ)، بل إن ابن الجوزي الموثوق يبين أن من أثر الرجل التقي العالم العظيم أن أسلم يوم مات ابن حنبل 20 ألفاً من اليهود والنصارى والمجوس. وتمضي القرون.. وقع بيدي كتابُ مذكرات للأديب المصري في أوائل القرن ال 20 "أحمد أمين" يروي فيها قصة طريفة وقعت له ولكنها ذات دلالة مهمة، وهي أنه كان في أول شبابه أزهرياً يرتدي الجبة والعمة الأزهريتين، وخطب من عائلة في مصر ورضوا به ورضوا بعمله ومرتبه، ولما أقبل على الشارع المؤدي إلى المنزل طلت عليه البنت من المشربية ورأته بعمّةٍ، فراحت تصرخ في أهلها: "ده طِلِعْ شيخ لابس عِمَّهْ، مش عايزاه". والذي حصل لأحمد أمين بعد ذلك أنه خلع العمة والجلباب، وصار يلبس بدلة الأفندية، ولم يعد لعمته ولا جلبابه بقية حياته! ما الذي حصل من خراسان في العصر الوسيط إلى مصر أوائل القرن ال 20؟ ظهرت المعارضة السياسية الدينية أول مرة في عصر الخلافة الأموية واستشهد أفرادُها بآية: "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر"، فلا مجال ولا محل للسكوت على الأوضاع الفاسدة في الدولة لأن الدين يلزم الفرد بالتدخل في الحياة العامّة. من جهةٍ ثانية استخدم الأمويون علماءً لمساندة النظام القائم بتنبيه الناس إلى ما يجب عليهم من طاعة أولي الأمر منهم والحفاظ على وحدة كلمة الجماعة. وظهرت جهة ثالثة دعتْ إلى الابتعاد عن السياسة والاهتمام بعلوم القرآن والحديث. وصار شيء.. لما ضعفت الدولة الأموية وشاع بين بعض الفقهاء الانتصار للعباسيين، فلما تولى العباسيون الخلافة ردوا لهم الجميلَ وأوكلوا إليهم تربية أولادهم وسلموهم وظائف القضاء العليا، حتى أنه لم يكن في العاصمة ونواحيها قضاة كبار إلا من مناصريهم من العلماء. وقد كان في تقريب الخلفاء والوجهاء للفقهاء أن نجَمَ عنه تطلع طلاب العلم والفقه إلى أن تصبح لهم الوظائف العليا والكسب المادي وصار ذلك هدفاً. وبما أن تلك الوظائف العليا لا يصلون إليها إلا عن طريق الحكام أو بطانتهم فبدأوا بالصلات الطيبة معهم ثم وصلت حد التزلف، بل راحت أبعد من ذلك، صاروا يمالئون ويفتون لإرضائهم. تدلنا محنة "خلق القرآن" التي بدأها المأمون واستمرت في عهدَيْ المعتصم والواثق على أن طبقة الفقهاء لم يكن بوسعها مقاومة آراء الخلفاء، وبدأ يظهر جلياً الخضوع والإذعان سوى من رحم الله منهم. بعض الفقهاء صار يتكالب على السلطة والجاه والتقرُّب والتزلف والتهالك على أصحاب القرار والنفوذ، ثم صاروا يتنافسون بينهم، واشتدت بينهم الغيرة والعداء.. واندثرت الشجاعة فلم يبرز للحق إلا أقل القليل مثل الفقيه الجريء أحمد بن حنبل وكذلك ابن تيمية. وهنا بدأت الأمة بالسقوط، لما مال الفقهاءُ إلى السقوط. والآن تعيش الأمة إرهاصات مشابهة.. والتاريخ يعلمنا الدرس، وسنرى إن نفع بنا تعليمه أم زادنا ضياعاً. وقل أن أذهب.. ذاك ما حدث بين ما كان الأمر عليه في خراسان، وما صار لأحمد أمين وعمامته وهو يخطب فتاة هربت من عِمَّته..