بعد توقف برنامج (الحياة كلمة) للدكتور سلمان العودة لمدة تزيد على السنة، عاد الأسبوع الماضي بشكل إعلامي مختلف، في برنامج دوري اسمه (وسم)، عبر موقع اليوتيوب، وبدأ الحلقة الأولى عن التغيير تحت عنوان (نعم.. أتغير)، والملفت للنظر أن عدد المشاهدات لهذه الحلقة تجاوز الثلاثمائة ألف في أقل من أربع وعشرين ساعة، وهو ما يعطي إشارات كثيرة تستحق التفكير. نعم.. أتغير، هذه هي الكلمة المفتاحية للحلقة، وقد أثارت في عقلي أشياء كثيرة، كما أثارت في عقول المشاهدين، بدلالة التفاعل الكبير في موقع تويتر، في فترة وجيزة جدا. (التغيير) كلمة تبدو محايدة جدا، فالمعنى المباشر لهذه الكلمة يعني أننا نرفض المكوث عند نقطة ما، لكنها لا تعني بأي اتجاه سنسير، هي تعني أننا مؤمنون بسنة الحياة، الحركة ضد السكون، النشاط ضد الكسل، الحياة ضد الموت، حياة الأمم والشعوب والقلوب والعقول، نريد أن نحيا إذن لا بد أن نتغير، فالحياة لا تستقر على حال، التغيير قد يكون تقدما وقد يعني التراجع أيضا، قد يذهب بنا إلى اليمين وقد يمضي بنا نحو الشمال، هذا بالعموم، لكن الملاحظ أن هذه الكلمة ليست خفيفة الأحمال ولا خالية المعاني كما يبدو من ظاهرها، فحين نتحدث عن التغيير نحن نلوّح بالمعنى الإيجابي له، أي أننا نتحدث عن التغيير للأفضل، وعن السير للأمام، وعن إيجاد الحلول، وعن الفرضيات والنظريات للحضارة، وعن المغامرة والتجربة. السكون قاتل للإنسان، ولا يمتلك أحد منا التوقف، فطالما أن الزمن يمضي بنا، فالتوقف في حقيقته تراجع، وما كان جديدا في العام الماضي، صار الآن قديما، ولكل رأي بشري عمر افتراضي، مهما كانت قوته، يدخل بعدها في حسابات التاريخ، ويصبح جزءا من التراكم الإنساني. كم تبدو الأزمة كبيرة حين يرى مجتمع ما أن التغيير عيب، وأن يلام فلان من الناس لأنه تغير، ولم يعد كالسابق، كيف لمجتمع أن يتجاوز مشاكله، وأن يقلع حضاريا، وهو يعد كثيرا من السنن الإلهية وقوانين التاريخ عيبا يجب التخلص منها، كيف يمكن أن نتحدث عن الحضارة حين تتحول مصطلحات ومفاهيم، مثل (المدنية والعصرانية والعقلانية والحداثة والتقدم والتغيير..)إلى ما يشبه الشتيمة، حتى أصبح المرء بحاجة دائمة إلى التبرؤ منها؟! الدين ثابت والرأي متغير، ونحن ندعو الله أن يهدينا الصراط المستقيم، بهذه المفاهيم تحدث الدكتور سلمان العودة، وأشار إلى مثال (التصوير)، حيث كان بعض العلماء يرى حرمته، ويجيزه للضرورة أو لأغراض دعوية، ووصفها بنوع من التحايل، وأنه كان مترددا في الانسجام مع هذا النوع من النظر للأمور، ولكن التصوير اليوم صار مقبولا ولم يعد الخلاف يشكّل أزمة للناس، لا لوجود بحث فقهي جديد، وإنما لأن الواقع تغير، يقودنا هذا إلى بُعد مهم في التجديد الديني، فالوعي والمدنية كفيلة بتغيير كثير من آرائنا، الوعي يُنتج فهما أفضل للدين، يُحسّن من آرائنا، ويدفعنا نحو الأمام، من هنا تأتي أهمية التعليم، والإعلام، ودور الدولة بشكل عام، فما يبدو اليوم مسألة شائكة سيتجاوزها الناس بعد زمن، فعلى الفقيه أن يستشرف المستقبل، (فالأشخاص الاستثنائيون هم وحدهم من يخترقون التاريخ) كما يقول غوته، وثمة معارك حقيقية، ومعارك أخرى وهمية، تستنزف الطاقة والجهد والعمر، وتعطل مسيرة الأمم، لا أكثر. بعض ممانعات التغيير لا قيمة لها، يتجاوزها الناس بعد فترة، وتصبح من الماضي، ولكن بعضها الآخر، يكلّف الأمة والدولة والمجتمع الكثير، حين اخترعت الآلة الكاتبة عام 1714م، انتشرت بشكل سريع في المدن الأوروبية، مما عجل من الحركة الثقافية، ووسع من انتشار الكتب، وسهل من اقتنائها، والعلم كلمة، إذا سهل انتشارها، وتيسر الحصول عليها، صارت الحضارة في متناول اليد، بينما وجدت الآلة الكاتبة في العالم الإسلامية ممانعة في قبولها، وحين قدم نابليون إلى مصر نهاية القرن الثامن عشر، أحضر معه الآلة الكاتبة، رغبة في إبهار المصريين، وعلامة على تفوق فرنسا وأوروبا بشكل عام، بينما صُنعت أول آلة كاتبة عربية عام 1914م، لم يكن هذا التأخير عابرا، ولا قليل الثمن، بل كلّف الأمة العربية والإسلامية فجوة زمنية حضارية، بات من الصعب تجاوزها، فالتراكم المعرفي يعتمد على الزمن، وفجوة بحجم مائتي سنة، في وقت كان تتسارع فيه الأفكار، وتُبنى النظريات، يقاس بشكل مضاعف، هذا في الحقيقة ما يجعل ممانعة التغيير خطيرة وباهظة الثمن. السكون قاتل للإنسان، ولا يمتلك أحد منا التوقف، فطالما أن الزمن يمضي بنا، فالتوقف في حقيقته تراجع، وما كان جديدا في العام الماضي، صار الآن قديما، ولكل رأي بشري عمر افتراضي، مهما كانت قوته، يدخل بعدها في حسابات التاريخ، ويصبح جزءا من التراكم الإنساني.