لقد غادر المثقف موقعه في خانة التأثير والتوجه الاجتماعي دون أن يدرك ذلك، وكلما انتبه إلى لحظة من لحظات ذلك الغياب أخذ يردد مقولات النقد الذاتي المكررة وابتعاد المثقف عن الشارع ووجود فجوة بين المثقفين والجماهير يشعر كثير من المثقفين بالحزن الشديد والحرج الواضح، لأنهم لم يتنبؤوا بالثورات العربية التي غيرت ملامح المشهد العربي، ويرون في ذلك دليلا واضحا على حالة الانفصال التي كانت بين المثقف وبين الواقع العربي. هذا الكلام سهل جدا، ويصب في خانة التواضع المعرفي الذي غالبا ما يتمثله المثقف العربي كلما شعر بانحسار دوره، وبتراجع قدرته على استيعاب الواقع من حوله، وإلا فمن قال إن من واجبات المثقف ومن دوره أن يتنبأ بما سيحدث؟ إن دوره في قراءة الواقع وتفكيك مختلف العوامل التي تشكله، واستشراف المستقبل لا يعني أبدا التنبؤ بما سيحدث وإلا لتحول المثقفون العرب إلى مجموعة من قراء الفناجين وقراء الكف. الثورات التي شهدتها المنطقة العربية، هي في أصلها تنطلق من معادلة ثقافية مؤثرة للغاية، فالثورات كلها ناتجة عن تحول ثقافي يتمثل في، أولا، انهيار مفهوم النخبة، وانزياح الخطوط التي تفصل بين النخبوي وبين الشعبي لصالح بروز الشعبي. أهم أدوات ذلك التحول أن النخبة فيما مضى كانت هي التي تدير عملية إنتاج الرسالة، الرسالة الثقافية والاجتماعية والدينية والاقتصادية، بينما ينحسر دور الشارع في عملية التلقي، حدث التحول حينما أصبح الشارع يمتلك منابره الخاصة، وتحول من خانة المستقبل فقط إلى خانة المرسل والمشارك في صناعة تلك الرسالة، وفي نقدها وتقييمها. كل الرسائل كانت تنتجها النخبة، وتقرؤها وتنتقدها النخبة، وتقدمها للشارع نخبة أيضا، لكن هذا الواقع انفرط مع ظهور وسائل إعلام جديدة أخذت في التوسع ومكنت الشارع من المشاركة في إنتاج الرسالة إلى تولي إنتاج رسائل خاصة وإدارتها وفق رؤيته ومطالبه. وفي ذات الوقت كانت وسائل الإعلام تسهم في صناعة وعي متجدد يجعل من الحقوق والاحتجاج والانتقاد أبرز محاوره، كما أنه يملك كثيرا من الجرأة التي تكونت لديه نتيجة دوره الجديد في عملية الإرسال، وإذا ما ربطنا هذه التحولات بالواقع المصري مثلا، فما الرسائل التي من المتوقع أن يعمل الشارع على إنتاجها وما اللغة التي سيستخدمها في إنتاج تلك الرسائل بعد أن أصبح يمتلك منابره ووسائله التعبيرية غير المحدودة؟ هذا الواقع لا علاقة له بمسألة حرية التعبير أو الجرأة في التناول، وفي السنوات الخمس الماضية كانت الصحافة المصرية مثلا تتمتع بمساحة واسعة من نقد الحكومة، وبأساليب حادة واستعراضية في الغالب، لكن تلك الحرية كانت نخبوية ولم تكن شعبية، بمعنى أنها ظلت تدور في إطار نخبة تتولى إرسال الرسائل وتقديمها للشارع ولم يكن للشارع أدنى دور في ذلك. كان سقوط النخبة في حد ذاته مؤشرا حيويا على تحولات واسعة في الشارع العربي، تحددت فيها ملامح أدوار جديدة، وتغيرت فيها المواقع والمنابر، كانت اللحظة الأعلى تأثيرا حين اتجه الشارع للتعامل مع وسائل إعلام جديدة لا تتوقف فقط عند الخروج من حالة التلقي إلى حالة الإرسال، ولا تجعله فقط شريكا في صناعة الرسالة، بل تجعل منه مصدرا ومرجعا للرسالة ووسيلة إعلام قائمة بذاتها على مستوى النص والكتابة والصورة. لقد غادر المثقف موقعه في خانة التأثير والتوجه الاجتماعي دون أن يدرك ذلك، وكلما انتبه إلى لحظة من لحظات ذلك الغياب أخذ يردد مقولات النقد الذاتي المكررة وابتعاد المثقف عن الشارع ووجود فجوة بين المثقفين والجماهير، وكل ذلك نوع من الانتلجنسيا الثقافية، إنما بصورة عكسية، فالحنين إلى التأثير وقيادة الرأي العام بات نبرة واضحة في صوت المثقف العربي، دون أن يدرك أن هذه التحولات إنما جاءت نتيجة طبيعية ومنطقية للغاية لحالة التوسع الاتصالي والمعلوماتي التي شهدها العالم. الآن يتمثل دور المثقف فقط في عملية قراءة الواقع، قراءة يستخدم فيها مختلف أدواته الفكرية والمعرفية، دون أن يتورط في منظومات من الوعظ الثقافي حول الحقوق والحريات واحترام التعددية، والانشغال بصناعة خطاب يلتحق بالشارع، وليس موجها له، فلقد انتهى زمن توجيه الشارع وأصبح الشارع قائدا، مع ما في ذلك من أخطاء وعيوب وبروز واسع لمختلف العيوب الاجتماعية. أثبت الشارع أن لديه قدرة حقيقية على التخلي عن النخب وتجاوزها، مما يعني أن الدور التوجيهي للنخب بجميع مستوياتها قد ولى، ليحل محله دور جديد للمثقف يبتعد فيه عن منصب التوجيه إلى منصب الشراكة، ومن منزلة توجيه الشارع إلى منزلة الاشتراك معه في خطابه أولا، واستيعاب تحولاته، والتركيز على خدمة الجماهير من خلال قراءة لغتها ورسائله الجديدة، وما عدا ذلك سيظل المثقف مجرد ضيف ثقيل على موائد الثورات والتحولات العربية.