يذكر المؤرخ:أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر, الشهير ب»اليعقوبي» على هامش أحداث سنة ثمان وستين للهجرة, أن وقفة عرفات لحج ذلك العام, شهدت رفع أربع رايات سياسية, هي: راية محمد بن الحنفية بن علي بن أبي طالب, في حشد من أنصاره, وراية عبدالله بن الزبير, في طائفة من أصحابه, وراية نجدة بن عامر الحروري الخارجي, في زمرة من مؤيديه, إضافة إلى راية بني أمية في فئام من الداعين لهم. ثم يستدعي, أعني اليعقوبي, تعليقاً للمساور بن هند العبسي على ذلك المشهد,هو قوله:» وتشعبوا شعباً كل قبيلة فيها أمير المؤمنين». أما الباحث العراقي المعروف:( رشيد الخيون)، فيعلق على ذلك المشهد بقوله:»وما زالوا متشعبين شعباً متناحرة, يأخذون الناس بالدعوة إلى الدين، ومن عجز عن تحقيق مراده بالسيف, لجأ إلى اللعب على سذاجة العوام عبر الديمقراطية. إنها لعبة جديدة, لكنها في منتهى السخرية». أما ما حدث لتلك الرايات الأربع, فهو شبيه بما يتلو أي صراع سياسي محض. فلقد نُكست راية نجدة بعد قتله من قبل بعض منافسيه من داخل حزبه, سنة خمس وسبعين للهجرة . وأما محمد بن الحنفية فلقد دعاه ابن الزبير للمبايعة ليشكلا راية واحدة أمام راية الأمويين, إلا أنه رفض, فجرى بينهما شر عظيم, حتى همّ ابن الزبير به وبأهله, لكنه, أعني ابن الزبير, اكتفى بمنعه من إكمال عمرته,على الرغم من إحرامه وتقليده الهدي, فرجع إلى المدينة, ومكث فيها محرماً حتى تناثر القمل منه, إلى أن مات فيها سنة إحدى وثمانين، على ما ذكره ابن كثير في»البداية والنهاية». فهاتان رايتان أُجهز عليهما قبل أن ينالا شيئاً من بغيتهما السياسية, وبقيت رايتان لا زالتا تتنافسان سياسياً باسم مصلحة «الدين», وابتغاء تطبيق»الشريعة». فيما بعدُ, استطاع عبدالملك بن مروان, (أحد فقهاء المدينة السبعة!! ) أن يُنزل راية ابن الزبير, بعد أن أجهز عليه بواسطة قائد حملته على مكة: الحجاج بن يوسف, ثم صلب جثته أمام الكعبة, سنة ثلاث وسبعين للهجرة, في فعلة يتناهى عن التلبس بها أعتى الجبابرة. وعندما مرت أمّ ابن الزبير, (أسماء بنت أبي بكر ), بجثة ابنها وهي مصلوبة, رجت الحجاج أن يرأف بحالها, وهي الصحابية الجليلة, الكبيرة في السن, فيسمح لهما بمواراة جثة ابنها الثرى, لكن مؤسس مدرسة الطغيان العربي رفض طلبها, وزاد على رفضه بأن صاح في وجهها قائلاً:» اسكُتي, فأنت عجوز قد خرفت!». ولم يكتف مبير ثقيف بما فعله, بل أضاف إليه اتهامه لابن الزبير بالإلحاد في الحرم, فلقد قال لأمه,أثناء حجاجها معه حول قتله إياه :»إن ابنك ألحد في هذا البيت وإن الله أذاقه من عذاب أليم». وهكذا, فتهمة المروق من الدين, هي التهمة الجاهزة التي يلصقها تجار الإسلام السياسي, القدماء منهم والمحدثون, بمنافسيهم, حتى يسهل عليهم نبذهم من أعين العامة. ومنذ ذلك الحين وحتى الآن, وإلى أن يأذن الله بفتح عقلاني من عنده, والرايات السياسية النفعية ترفع باسم الدين, وتحكيم الشريعة, مخلفة حرائق وقودها السذج الذين ينساقون خلف شعاراتها, فيما هم عما يُراد لهم من خلف هذه الشعارات سادرون, وفي غيهم يعمهون!. ميدان التحرير بقاهرة المعز, شهد أحدث فصول هذه الملهاة. ففي يوم الجمعة قبل الماضية احتشد فئام من تيارات الإسلام السياسي, السلف والإخوان على وجه الخصوص, رافعين بيارق وشعارات, باطنها فيه حماية جناب الدين, وتحكيم الشريعة, وظاهرها من قبله الطموحات السياسية البحتة. وحينما تجاورا, قال السلف لأنصارهم: ليس الإخوان على شيء, وقال الإخوان لمؤيديهم: ليس السلف على شيء، وهم يتلون الكتاب, فيما المغيبون من أنصارهما تتقاذفهم أمواج الشعارات, كما الكرة بين أقدام الصبية. كل من الجماعتين كان يطالب بدولة إسلامية, وكل منهما كان يطالب بتحكيم الشريعة, لكن أحداً من حاملي مباخرهما, لم يتساءل عن أي نوع من الإسلام السياسي, أو الشريعة تريد تلك الجماعتان أن يُطبق؟! لم يسأل أحد نفسه في لحظة صفاء:كيف تتعدد راية محمد صلى الله عليه وسلم ويُختلف عليها, بل ويتقاتل لحساب الزعم بالدفاع عنها, وهو القائل:» تركتكم على المحجة البيضاء, ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك»؟! ومن نُذُر الزيغ وبوادر الهلاك, والتي لا يزال مروّجو الشعارات الدينية يخفونها عن أتباعهم, الإعراضُ عن منهج محمد صلى الله عليه وسلم السياسي, المتمثل في أنه لم يحدد لأمته منهجا بعينه للحكم, بل تركه مفتوحاً للناس ليحددوه وفقاً لما تحدده ظروف أمكنتهم وأزمنتهم, بشرط أن يكون محققاً للعدل الشامل. كان ذلك يوم حصحص الحق بإعلانه الخالد» ما كان من دينكم فإليّ, وما كان من دنياكم فشأنكم به». وما يحز في نفس الرائد الذي لا يكذب أمته, أن يتكرر المشهد دائما, فيكون لكل قبيلة أمير للمؤمنين ، ولكل حزب إسلامٌ يخصه, ولكل حركة شريعةٌ تخصها, فيما السذج يتقاذفون في نيرانها, ثم يُمكر ببقيتهم في ضحضاحٍ من الفقر والجوع والعوز والاستبداد, ثم لا يتوبون ولا هم يذّكرون!. لقد ثار المصريون على مبارك فأسقطوه بدعوى أنه مستبد أخذ أموالهم, وضرب أبشارهم, واعتدى على حرماتهم, لكن سياق ما بعد الثورة, وبدعم من نسق ثقافي لا يزال يمد بسبب إلى مشهد تلك الرايات الأربع, يواصل الخطى نحو تنصيب مستبد ديني يفرق عن مبارك, في أنه يحيل في استبداده إلى غائب, فيجعل معارضته معارضة لله تعالى, في حين أن مباركاً كان يحيل في استبداده إلى شاهد مُعاش, الأمر الذي جعل معارضته جزءاً من الحياة السياسية, وهو لعمري فارق عظيم. وإذا كانت الرايات التي خلفت نظام مبارك متفقة في المذهب, فإن الرايات التي ستخلف نظام الأسد بعد سقوطه, ستكون مختلفة المذاهب, من علوي وسني, وأخرى من شكلهما أزواج. يومها سيود الثائر السوري لو يفتدي من عذاب يومئذ بما يملك, لكن لسان حاله سيجيبه:هيهات فقد قضي الأمر واستوت على الجودي، وقيل بعداً للطائفيين الذين لم يراعوا سنن الله التي لن تجد لها تبديلاً أو تحويلا. والأشباه والنظائر نراها من حولنا رأي العين. فهذا العراق كان يسوسه نظام بعثي بعلمانية مستبدة لا تفرق بين شيعي أو سني, ولا بين مسلم أو مسيحي أو يهودي, لكن ما أن سقط النظام حتى تداعت الرايات الطائفية على مشاهده كما تتداعى الأكلة على قصعتها, فكان أن ذُهلت كل مرضعة عما أرضعت, ووضعت كل ذات حمل حملها, وغدا العراقيون من هول الطائفية ومذابحها, سكارى وماهم بسكارى!. والثورات العربية القائمة الآن ستكون على نفس المسار, فالقائمون بها, والمترقبون لنتائجها إنما هم كالمستجير من الرمضاء بالنار!. ليست المسألة بالنسبة لي بكاءً على أطلال المستبدين, ولكن المسارات الثورية العربية ستنتهي, في ظل غياب تنوير عقلاني ناقد للأسس الثقافية التاريخية التي يتكئ عليها المستبد العربي, إلى استبدال مستبد علماني بمستبد ديني. وما دام الأمر كذلك, فخير لهم أن يبقى الأول, لأنه - على الأقل - لا يطابق بين الشاهد والغائب!