أعجبني كثيراً هذا الخلاف بين وزارة العمل وهيئة كبار العلماء، وأرى هذا الخلاف بزاوية إيجابية للغاية، وهي روح التعددية في المجتمع والتعايش مع هذه التعددية والقبول بها. القصة بدأت عندما سمحت وزارة العمل للفتيات بالعمل «كاشيرات» في المحلات الكبرى وفق ضوابط وأسس مرعية في العادات والأعراف السعودية والثقافية والدينية التي تسير عليها المملكة، ومن ثم قامت هيئة كبار العلماء بتحريم هذا العمل كنوع من التوعية وبناء على ذلك أصدرت فتوى شرعية، والرسالة الواضحة للناس الآن، أن هذه الوظيفة لدى الهيئة يرون أنها محرمة (كرأي يقبل الصواب والخطأ). والوزارة ترى أنها مصيبة في السماح بهذا النوع من العمل، فبغض النظر عن أن مسألة الحلال والحرام ليس من تخصصها إلا أنها ترى - مثلها مثل كل المؤسسات السعودية - أنه لو كان الأمر محرما فإن عدم عمل المرأة يُفضي إلى محرم أكبر منه وهي أن تقع في مزلق العبودية والاستغلال وطرق الحرام والظلم وسلوك طريق الضالين، ولذلك ترى أن أخف الضرر هو أن تستغني المرأة عن مد يدها للآخر الذي قد يستغلها استغلالاً سيئاً. إن ما يحصل الآن هو عين العقل، من حق كل جهة أن تبدي رأيها دون إلزام، فقد أبدت هيئة كبار العلماء رأيها دون أن تفرض منع النساء من ممارسة هذه الوظيفة، كما حصل في زمنٍ ماضٍ عندما مُنعت المرأة من (حق) قيادة السيارة، وها نحن ما زلنا نجني التراجع بسبب هذا المنع، وها هي السيارات في الشوارع تعج بالنساء الراكبات مع رجال غرباء، هذا عدا الحوادث المؤسفة وحالات التحرش والخسارة الاقتصادية، ولست في هذا الوارد الآن، لأن الحديث يطول. إننا نريد أن نعيش وسط تعددية في الآراء، وأن نعلم أن كثيرا من الأحكام الشرعية لا تحمل الصيغة القطعية بل الصيغة الظنية، يعني أنها صواب تقبل الخطأ وأن غيرها خطأ لكنه محتمل الصواب، وهذا يجعل لدينا مرونة كبيرة، وأن ليس كل فتوى بالتحريم تعني أنها محرمة مائة بالمائة بل هناك أدلة ظنية الثبوت وتعني أن من أفتى يميل للتحريم لكنه لا يجزم بقطعيته لعدم ثبوت الأدلة، فلا أحد يؤمن بأن تحريم الاختلاط قطعي ك قطعية تحريم الخمر والربا، حيث ورد في الثانية أدلة قطعية المصدر أي آيات بينات على لسانه تعالى، فيما الأولى هي مجرد استنتاجات لعلماء واختلف معهم علماء آخرون في الرأي الذي يجيز الاختلاط، لأن الأصل هو بقاء كل شيء على ما هو عليه ما لم يثبت خلاف هذا في العادات وليس في العبادات. إن الجانب الإيجابي في الفتوى والحادثة هو ما يجب أن يُعزز لدى الفئة الواعية في المتجمع، وهو كيف نقبل أن للناس خياراتهم الشخصية، وأنهم يعرفون ويقررون ما هو المحرم والحلال في نظرهم وأن يتحملوا مسؤولياتهم في هذا الأمر وعدم معاملة الناس كما لو كانوا أطفالا يُقرر لهم غيرهم بدل منهم، ويعلمهم آخرون ما يجب أن يعلمون فقط، لأنهم قرأوا من مصادر أو تخرجوا من كلية أو من جامعة معينة أو تخصص معين، فالدين منحة إلهية للناس جميعا وعلينا أن نتحدث مع الجميع بمسؤولية وألا نحاول أن نكون أوصياء عليهم في اختياراتهم.