إشكاليتنا مع الفساد ليست في القضايا التي يكشف النقاب عنها ويحتدم الجدل (الزائد) حولها، ولكن مع مظاهر الفساد الخفي الذي يبدأ وينتهي دون أن يعلم به أحد. فالفساد ليس سرقة المال العام في شكله المباشر والتقليدي الذي يتبادر إلى الذهنية الاجتماعية كلما جاء الحديث حول هذه المفردة، لكنه تجاوز هذا المعنى المسطح بكثير وأصبح في مظاهره ومكوناته وأساليبه الخفية أبلغ تأثيرا على الوطن والمواطن. حتى التعريف المبطن لسرقة المال العام تختلف هي الأخرى من نظام اجتماعي إلى آخر، فما يعتبر في بعض المجتمعات مالا مسروقا هو في مجتمعات أخرى مال حلال زلال. مظاهر الفساد -حسب ما نرى ونشاهد- لا تزال تتغلغل وتستشري في النفوس قبل الأجهزة الحكومية والشركات، فما يقال شيء وما يحصل شيء آخر، ولن تتغير الأمور إلى أن تكشف فيه الأسباب المؤدية لوجوده بوضوح تام ودون تحفظ. كما لن تتغير الأمور بزيادة فاعلية المؤسسات الرقابية وإعادة النظر في أنماطها وأنظمتها المتقادمة وفقا لبعض الطروحات، والسبب يكمن في الغياب التام لمفهوم الحوكمة الذي أصبح يحتل مساحة واسعة على مستوى الإصلاح الإداري والمالي والاقتصادي في مختلف دول العالم. ففي التجارب المجاورة اقترن مفهوم حوكمة المؤسسات الحكومية بالتوجه نحو رفع أدائها وتقنين أنظمة الرقابة على المستوى المؤسسي لتحديد المسؤوليات والحقوق والعلاقات مع جميع الفئات ووضع القواعد لصنع القرارات الرشيدة داخل المؤسسة في إطار تعزيز مبادئ المساءلة والشفافية. من دون ذلك «إنسى» أن يتوقف الفساد حتى لو وضعت على كل موظف مراقباً.