.. العنصريةُ، جَدَريّ على الوجهِ الوطني. فليستْ كلّ ألوانٍ متفرِّقةٍ، وبُقَعٍ متكتلة بأطياف متباينة الألوان على البشرة، تكون دائما شكلاً جميلا بل أحياناً تكونُ منظراً مقيتاً بالغَ القُبح. إن أمَّتنا تتحدر إلى عناصر وأقوامٍ مثل أية أمّةٍ كبرى، تتباين فيها الانتماءاتُ، والتقاليدُ، والأفكارُ، وهذا تلونٌ حميدٌ كتجاور الألوان في قوس قزَحٍ بفجرٍ يجاورُ الشروق. إنها ألوانٌ على كسائِنا الوطني، فتعطيه الرونقَ والحيوية والتماوجَ، فيغدو بهياً يسر الناظرين.. ولكن، حين تكون مترابطة ومتماسكة بنسيج التناغم والانسجام. وعندما تتركز هذه العناصرُ المتباينة والمختلفة، وتتمحور، وتتورم، وتلتهبُ، لتنقلبَ إلى تعنْصُرٍ وتعصّبٍ، فإنها هنا تطفحُ على البشرةِ كما تطفح فُقَيْعاتُ جدري الماء أو الحصبة مشوِّهة، مُضرة.. ومُعدية. شيءٌ جميل أن تكون مخلصا ومحبا وتابعا لتقاليدك، وأفكارك، وانتماءاتك، فهذه طبيعة إنسانية، شرطَ أن نكون تحت مظلةٍ جامعةٍ عادلةٍ، كما تتآلفُ وتتماوجُ وتزهو الورودُ مختلفة الألوان في باقةٍ ضامّةٍ واحدة. ولكن هناك تهديدٌ يطير كالسيفِ فوق رؤوسنا عندما نترك العِنانَ لروح العصبيةِ، وتأزّم الانتماء الضيّق، وعنادِ الفكر، وتيبس الرؤية، والتفرقة في عنصر البشر أنفسهم، وننسى أن اللهَ في بدء خلق الإنسان خلقه إنسانا.. أي لا ينتمي إلاّ إلى الخليقةِ الجديدةِ: الإنسانية. الإنسانُ بكل فئاتِهِ اللونيةِ والجنسية.. أراد اللهُ للإنسان أن يكون مخلوقا كريما يعمّر الأرض، ويرأس المخلوقاتِ الأرضية، ومنذ الزمان الأوَلِ والإنسانُ يحاولُ أن يحُطّ بمعاذير مختلفة من أخيه الإنسان. إن من بيننا من يأنفُ أن يعيش مع جماعةٍ من وطنه، يحملون جنسيته، ويسيرون على ترابه، ويتطلعون إلى قِبَّةِ سماه ونجومها.. فقط لأنهم من قبيلةٍ أخرى، أو لأنهم ليسوا من قبيلة، أو من خلاف الفكر، أو بسببٍ طائفي.. وهنا، بدل أن تكون البلادُ سدّا منيعا قوي البأس والصمود، يصبح مع الزمن كلما استفحلت حصباءُ العنصرية رقيقا متهتكا قابلاً للتهشم كقِشر البيض.. وعندما ندورُ في الأرجاءِ صارخين: «هذه قبيلتي»، «هذا جنسي»، «هؤلاء قومي»، «هذه تقاليدي».. مدعين أنها الفضيلة الأوحد، وأنها الدّرَرُ اليتمية، وأنها القمة الوحيدة السامقة عما سواها، فهنا في المكان والأوان ذاته نكشف عن عمق انحيازنا، وصلافة غرورنا، وضيق عقولنا، وعشاوة رؤيتنا.. وعدم اكتمال نمونا وتطورنا! دعوني أعترف أمامكم أن الخلافات التي تعمّقَت في مجتمعاتنا، هي خلافات تكلست مع الظروف وتعاقبات للإمداد النوعي الضيق من الأفكار المُعَنصرة إلى صخرةٍ شديدةِ الصلابة، وتقفُ عليها بثباتٍ هذه الفروقاتُ والانتماءاتُ العصبية بأمتنا.. وحتى تبدأ في التشخيص والمعالجة - فعليك أن تفهم وتقدر وتعترف بحجم المشكلة.. ومشكلتنا كبيرة، إنها فقاعاتٌ من الجدري الخطر، أو الحصباء التي يحصن فيروسُها نفسه مع تكرار الزمن، ليكون المرض ضاربا في خلايا الجسدِ الوطني.. هذا ما نقوله آسفين، ولكن غير قانطين. نحن وُهِبْنا العزمَ والتصميمَ والقوّة والإرادةَ والمصادرَ التي تجعلنا قادرين على زحزحةِ هذه الصخرة الكأداءِ ورميها في أعماق البحر، ولن يكون لنا ذلك إلاّ في تضافرنا رغم تنوعنا، وهذا ما كنا عليه لسنواتٍ طوال، إخوة متحابين متعاضدين حتى دخلتْ هذه الحصباءُ الآكلة للجلد، وانتشر الجدريُ نَهِماً ينهشُ النسيجَ الحي. عندما نلقي الصخرةَ في الأعماقِ، وننجز التحصين ضد الجدري والحصباء، عندها فالنتيجة الأكيدة أننا كلنا سنعي يقينا أننا عناصر أمةٍ واحدة، نمشي على ترابها، ونتظلل بسماها، ونحدّق في أنوار نجومِها، أننا كلنا نتشاطرُ الهموم نفسها، والطموحاتِ نفسها، والأحلام نفسها، والاحتياجات نفسها، ونتقاسم الآلامَ، والدموع، كما نتقاسمُ الأفراحَ والبسمات.. لنعمل كلنا معاً بنيةٍ صافيةٍ، وقلبٍ واحد، ليتحقق لنا حصدُ المكاسب والكنوز والفرص التي تنعم بها أمتنا.. ونستشعر الأمانَ والعدلَ في جمال كثبانها، وهيبة جبالها، وثراء تراثها. نتمنى من الله في هذهِ العشرِ الأواخرِ أن يأتي وقتٌ قريبٌ نعلن أن أمَّتنا خالية من جدري وحصباء العنصريةِ والتعنصُر!