لقد أحسن مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، عندما خصص الحلقة الأخيرة من الحوار للحوار حول القبلية، والمناطقية، والتصنيفات الفكرية وأثرها على الوحدة الوطنية، لأن في وجهة نظري أن هناك من بيننا من استمرأ التمييز المناطقي والقبلي، مستغلاً السكوت عنه، خوفاً من آثار الحديث، وأصبح يمارس تمييزا مكشوفاً وهو مطمئن لعدم تجرؤ أحد بالحديث عن ممارساته العنصرية. صحيح أن الحديث عن التمييز العنصري في أي مكان في الدنيا هو حديث حساس، خصوصاً إذا تم تناوله بطريقة فجة، بطريقة تثير العصبيات أكثر مما تعالج المشكلة، وفي هذه الحالة قد يؤدي إلى اضطرابات اجتماعية وسياسية. ولكن الصحيح أيضاً أن الممارسات التي تنطوي على تمييز عنصري - قبلي أو مناطقي أو فكري أو مذهبي- أيضاً سوف تتسبب في اضطرابات اجتماعية وسياسية. ولذلك تعجبت من انفعال الأستاذة حصة العون، ونقدها للقائمين على مركز الحوار لعقد هذه الحلقة حول هذا الموضوع الحساس وأثره على الوحدة الوطنية!! واعتبارها أن عبارات بدوي وحضري، وطرش بحر، وبقايا حجاج، وما إلى ذلك بأنها عبارات طفولية، ولا تستحق الحوار حولها، وهذا قد يكون صحيحاً إذا بقيت في سياق الهزل والمزاح، لم يُتبع بممارسات تمييزية من هذا أو ذاك. وأيضاً دفاعها عن قضايا التفريق بين الأزواج بحجة عدم كفاءة النسب، واعتبار ذلك من خيارات الناس، وهذا أيضاً يمكن قبوله قبل الزواج، إذ من حق كل شخص أن يبحث لولده الكفء لكي يؤدم بينهما، أما بعد الزواج والإنجاب، وأن تأتي المطالبة بالتفريق بين زوجين متحابين من أبناء العم وأبناء القبيلة فهو أمر لا يجيزه عرف أو شرع، ولا يبرره إلاّ من كان في نفسه بقايا عنصرية. فالمشكلة ليست في الانتماء للمنطقة أو القبيلة أو للمدينة، فدوائر الانتماء يحيط بعضها ببعض، ولا تعارض بينهما، فلا مشكلة أن يكون الإنسان منتمياً إلى أسرته وعشيرته، وحيه ومدينته وإقليمه وبلده وأمته، كأن يكون جداويا، حجازيا، سعوديا، عربيا، مسلما.. ولكن المشكلة عندما يعتقد أنه أفضل من الآخرين ويتعامل معهم على هذا الأساس ويمارس تمييزاً ضدهم.. هنا تكون المشكلة. فالتمييز العنصري بغيض ومُنْتِن كما وصفه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وهو يشحن النفوس، ويملؤها بالبغضاء، ويشيع شعوراً بالإحباط لدى من يكون التمييز ضدهم، وكلما ازداد التمييز ازدادت ردود الفعل الغاضبة. إن الممارسات العنصرية تؤدي حتماً إلى اختلال ميزان العدل، وإلى وقوع أنواع شتى من المظالم، بعضها يمس الأفراد والبعض الآخر وهو الأنكى والأشد هو ذلك الذي يؤثر على الجماعات، لأنها - وأعني الممارسات العنصرية - تتعلق في جانب منها بفرص العمل وتوزيع الثروات، فتجد من يمارسونها يمنحون عنصرهم أفضل فرص العمل دون النظر للجدارة، وأكبر الحصص من الثروة دون النظر لشرعية استحقاقها، وفي كلا الحالين سيكون ذلك على حساب الآخرين، الذين سيقعون في ضيق العيش، ويدفعون أثماناً باهظة، لا لشيء سوى أنهم من عنصر مختلف من وجهة نظر ممارسي التمييز العنصري. الممارسات العنصرية ستقود أيضاً إلى مظالم في دوائر أخرى من دوائر العدالة، مثل دوائر التقاضي، في الشرطة، وفي جهات التحقيق، وفي المحاكم.. وهلم جرا.. إن خطر الممارسات العنصرية على الوحدة الوطنية كبير، وهو يهدد وحدة الدول والشعوب، ولذلك علينا أن لا نسكت عنها، بل نناقشها بحكمة وروية، وأن نتحاور حول كيفية القضاء عليها. إن السودان الشقيق ذاهب للتقسيم بسبب ما يعتبره أهل الجنوب ممارسات عنصرية ومظالم وقعت عليهم على مدى قرنين من الزمان. فقد استمعت إلى مقابلات أجراها مذيع الجزيرة مع مسؤولين وتجار ومواطنين في جنوب السودان، فألفيت جميع أحاديث من قابلهم ذهبت دون تردد نحو الانفصال ولمست أن هناك شعورا عميقا بالمرارة من التمييز الذي مورس ضد الجنوب والجنوبيين، حتى أن تعليق أحدهم على تنبيه المذيع لأهل الجنوب بأنهم غير مهيئين لتأسيس دولة، كان (خلينا نمرق إلى الانفصال وكل شيء يأتي).. فالجنوب والجنوبيون يشعرون بالتهميش منذ 180 سنة كما عبّر أحدهم. وفي جنوب اليمن يعبر الشعب عن شيء مما عبر عنه شعب جنوب السودان ولا يزال يطالب بالانفصال، وفي جنوب لبنان هناك من يرى أن الشعب هناك أيضاً سئم من التهميش فاندفع إلى الخارج، وهناك حديث عن التقسيم، وهناك خشية من مطالبة الأقباط في جنوب مصر بالانفصال وهذه سمعتها قبل يومين من أحد الإخوة المصريين، وبالطبع نتذكر أن مطالب البوليساريو في المغرب بالانفصال هم أيضاً في جنوب المغرب!! أول مرة ألاحظ أن مشاكل الدول العربية والنزعات الانفصالية جراء التهميش تكمن في الجنوب، فهل لاحظتم ذلك من قبل؟! سقت هذه الأمثلة مع الفارق فليس في بلادنا تمييز وتهميش كما هو في البلدان التي جاء ذكرها -استطرادا- والحمد لله، ولكن السعيد من اتعظ بغيره، وعلينا أن نستفيد مما يجري حولنا، خصوصاً أن العامل المشترك بين الأمثلة هي أنها نتائج للشعور بالتهميش وعدم العدالة، والتهميش هو الوجه الآخر من عملة التمييز العنصري، وبالتالي علينا أن لا نترك المجال لمن يمارس أي نوع من التمييز.. فاكس: 5422611-02 [email protected]