هل يجلس المسؤول سوء كان وزيرا أو غيره في منزله في اليوم التالي لانتهاء خدماته أم أين يذهب؟ ماذا يفعل تحديدا في اليوم والأسبوع الأول والتالي لانتهاء خدماته؟ هل يستيقظ الصباح كالمعتاد فساعاته البيولوجية لا تعرف خبر انتهاء الخدمة؟ هل يفز ناظرا إلى الساعة؟ ثم يتذكر أن اليوم لا يوجد عمل فيعود إلى مخدته يتقلب يمنة ويسرة لا يدري ماذا حدث. المتألق علي الموسى يقترح اقتراحا جميلا بعودتهم إلى مجال أعمالهم السابقة، فالطبيب يعود للمستشفى والأستاذ الجامعي يعود لمحاضراته وطلابه. أود أن استرسل فأقول أتمنى أن تستقطب الجامعات تلك الخبرات الإدارية المهدرة عبر إنشاء ما يسمى ب:الحاضنات الفكرية، وهي الترجمة الحرفية "think tank"، فهي الأروع مكانا لهؤلاء، لأن تلك الحاضنات الفكرية تعتبر من أهم الجهات المغذية للأفكار والاستراتيجيات وكأنها بالفعل مزرعة خصبة يمكن لها أن تستغل الطاقات المعطلة في إنتاج شيء يعود على البلد بفائدة ذات قيمة. استثمار تلك الكفاءات التي عاشت وشاهدت الكثير من الأحداث المؤثرة هو للاستفادة من تجربتهم حتى لا تتكرر ذات الأخطاء والأحداث. إنها استفادة لبناء حاضر أقل أخطاء وأكثر كفاءة. في تقديري أنه من الهدر اللامعقول ترك مسؤول حكومي خدم في الدولة سنوات طويلة، بعضهم تجاوزت خدمته نصف قرن، أن يتقاعد هكذا بهدوء منطويا في منزله أو باحثا عن عمل هنا أو هناك لإشغال وقته بأي شيء. نتاج هؤلاء الحقيقي يمكن تلمسه الآن بعد انتهاء دوامة العمل الحكومي وراحتهم من الضوضاء التي أصمت آذانهم ومن الغبار الذي أضعف رؤيتهم. كانوا في المعمعة الحكومية كالمخرج لبرنامج تلفزيوني يرى ما لا نرى ولكنه لا يرى ما نرى عن بعد؛ اليوم دورهم للجلوس معنا وشرح ما عجزنا عن فهمه، أو شرح الأسباب والمعوقات التي لم تمكنهم من اصطياد رغباتنا، أو على أضعف الإيمان لتدوين سيرة مرحلة انقضت حتى لا يطمر التاريخ معالم تشكل تفاصيل حراكنا الحكومي، سواء أسميناه نهضتنا التنموية أو فشلنا التنموي. هذه الاستفادة ستكون بشكل أعمق وبشكل صريح لأن الضغط الحكومي اختفى، واختفت القيود المكبلة للحديث عن هذا وذاك. إنه عمل بحثي تنموي يغذي العروق في كل الاتجاهات ويمكنه أن يكون منارة يستضاء بها لئلا تتكرر الأخطاء مرة أخرى. إن تواجد الوزراء السابقين في تلك الحاضنات الفكرية، التي أعتقد أن انسب مكان لها في الجامعات، سيكون إضافة غنية لا يستغني عنها المجتمع، ليشرحوا أولا ماذا حدث في أيامهم، وماذا تغير، وماذا كانوا سيفعلون لو أنهم مازالوا في ذات الكرسي، وماذا يجب عمله في المستقبل، كل هذا بمساندة طاقم بحثي مساند من طلاب دراسات عليا وباحثين مختصين في الشؤون المحلية والدولية. دعونا نفترض وجود حكومة "افتراضية" موازية لعمل الحكومة الحالية، و تخيلوا وجود الوزراء السابقين في تلك الخلية.. أظنها ستكون عونا وعينا مساعدة للحكومة من جهة وللجمهور من جهة أخرى لفهم واستيعاب الأحداث المغيرة في خريطة معاشنا اليومي. تواجد تلك النخبة في مراكز بحثية وفكرية والتعاطي مع قضايا المجتمع بكل أطيافه وإقامة ورش عمل وحلقات بحثية يحضرها المهتمون وتوفير البنية التحتية لنشر الكتب و البحوث المختصرة أو المطولة من شأنه إثراء الساحة العامة بشكل هائل، حكوميا و شعبيا وأكاديميا. رغم جهدنا الرائع في محاولات التطوير إلا أنه يبدو لي أنه من الصعب جدا القيام بعملية تطوير لا تتكئ على الماضي، وبالطبع هذا لا يعني نسخه وإعادة إخراجه بتوقيع مختلف وإلا لفقد التغيير سببه، بل لمعرفة الصعوبات والمعوقات التي واجهها السلف لتجنبها وتجاوزها، ومعرفة نقاط القوة التي تكفل الانطلاق بقوة أكبر و بسلاسة أسرع. إن الماضي منجم زاخر يجب أن لا يرمى في الزوايا المظلمة لتعلوه الأتربة، لأن إغفاله بكل بساطة يعني أننا سنعيد بشكل ما تكرار ذات الأخطاء. الغرور و ركل الماضي الحكومي "طبع" يصعب أحيانا مفارقته لأنه يذكرك بالعهود "القديمة الرجعية"، والناس دائم في تطلع للمستقبل المشرق الجديد الحيوي السحري الذي سيغير الدنيا رأسا على عقب في غمضة عين. طبعا هذا لا يحدث. ما يحدث شيء مختلف لا أحد يستطيع استشرافه، ولكن بالإمكان اختصار الكثير إن استعنا بحقيبة الماضي؛ أما إن أهملناه فظني أننا سنبقى ندور دائما في عجلة مغلقة، أخطاء تتكرر، ومحاولات ناجحة وأخرى غير ناجحة أيضا تتكرر بنفس العشوائية. الوقت لا معنى له عندما ننسى الماضي. لنفتح الأبواب للانتفاع منهم، ليس لأجلهم ولكن لأجل حاضرنا ومستقبلنا حتى لا نشاهد ذات الحدث مرتين الفارق بينهما فقط وجوه الممثلين وإلا فالأسماء واحدة...