إذا سلمنا جدلاً بأن الأغنية قد أثرت في ذوق الخليجيين أيام زمان، فهل معنى ذلك أنها لم تعد تؤثر في هذا الزمن؟ من الذي غلب الآخر وسلبه طاقته؟ هل سلب الزمن الطاقة من الأغنية؟ أم أن الأغنية سلبت الطاقة من الزمن؟ هل تغير الزمن أم أن الأغنية هي التي تغيرت؟ كيف نحاول البحث عن اجابة وفلسفة مقنعة مع وجود مفارقة مهمة، وهي أن الأغنية الموسيقية نظام من الأزمنة، فكيف لها أن تتفكك من زمنها الداخلي، وتتوه عن زمنها الخارجي؟ إذا كانت أغنيتنا القديمة أثرت في أذواقنا بوصفنا من الجيل القديم، فليس معنى ذلك أن الأغنية الجديدة لم تؤثر في الجيل الجديد، بل ربما وجدنا من الجيل القديم من يأنس ويطرب لأغنية الجيل الجديد، ونجد من الجيل الجديد من يأنس ويطرب لأغنية الجيل القديم! إذاً كيف لنا أن نعالج الموضوع مادامت الأمور نسبية؟ من الأسئلة المهمة في هذا الأمر : كيف انتقلت الأغنية الخليجية من الطبيعة الى الثقافة؟ كيف كانت الأغنية إنسانية ثم صارت رأس مالية؟ ولعل تأمل فترة المؤسسة الشعبية يعطينا بعضاً من تلك الرؤية. المؤسسة الشعبية هي الفترة التي سبقت تشكل الدولة في منطقة الخليج، ويمكن نرجع ذلك إلى مائة، مائتين، ثلاثمائة سنة مضت، حيث كان الناس في هذه المرحلة يسيرون في نظام الجماعة والفكر الشعبي الذي أنتج عدداً من الفنون والأغاني، وغالبها فنون جماعية توارثوا أشعارها وإيقاعاتها وحافظوا على نظامها، دون أن تنسب هذه الفنون والأغاني لفرد بذاته، وكان كل فرد من أفراد هذه المنظومة الشعبية حافظاً وحارساً لهذه الأغاني الممثلة لفكر الجماعة اجتماعياً وانسانياً. وفي ظني لو لم تأتنا تقنية التسجيل على الأسطوانات لظلت الفنون الخليجية فنوناً جماعية، لكن التسجيل في الأسطوانات هو الذي أسس وعزز لمشروع المطرب الفرد، وكل تسجيلات الأسطوانات كانت تسجيلاً لأغاني مطربين ولم تكن لأغاني الفنون الجماعية كالعرضة والهيدا والفجري والخماري والليوة والطنبورة وغيرها. لكن هل تأثرت الفنون بهذا؟ لا.. والسبب أن أغاني الفنون الشعبية القديمة كانت تتأسس على بنية ثقافية شفاهية متغلغلة في الوجدان والشعور، مع ما يوجد فيها من بقايا أساطير وعبادات قديمة وهذا ما ضمن لها البقاء. إذاً فقد كانت الأغنية نظاماً ثقافياً، وكانت بنية أساسية في حياة الانسان ليله ونهاره. الأغنية في الخليج أشبه ما تكون بأسطورة مقدسة، يلجأ إليها الانسان كلما شعر بخوف من الواقع، وكلما أحس بأن المجهول والظلام سينهشه بين فكيه رفع عقيرته وغنى «ياليل دانه»، فيفضح بصوته خفافيش الظلام، ويصير الصوت أنيساً مأنوساً بإيقاعاته ودنابكه. كانت الأغنية وكان الإنسان، لا نقول وجهين لعملة واحدة، بل روحين حلتا في بدن واحد، فأينما بحثت عن الأغنية وجدت الإنسان، وأينما بحثت عن الإنسان وجدت الأغنية. وكلاهما كروح الطائر تهش لأرواح العاشقين والمتعبين والمذنبين والباحثين في الحياة عن ملاذ وطمأنينة. لم تكن الأغنية تؤثر على ذوق الإنسان، بل كانت هي الروح التي يتروحها، والنفس التي يتنفسها، والبلسم الشافي لآلامه وعذاباته، وإذا كانت الأغنية مع الإنسان الخليجي بهذا الحال، فكيف لا تؤثر فيه، وفي ذوقه وطبيعة حياته، ولماذا لا تكون الأغنية كذلك وهو الذي تلقاها من مرتقاها، واحتواها، وروضها ألحاناً وأنغاماً وإيقاعات، وتناقلها عبر الأجيال في ثقافة شفاهية مذهلة حملت لنا إرثاً فنيا وأداءً عبقرياً عبر فنون البحر والبر والحاضرة والبادية، وسجلها الأحفاد - فيما بعد - ظانين أنهم يحفظون تراثاً بينما هو الوجود بأسره. ويبقى السؤل الأصعب : لماذا تحولت الأغنية إلى كائن سيئ السمعة؟ تويتر : @saldhamer