عندما تعبر الشوارع الفرعية لوسط البلد وتجد أنك عبرت الزمن فأنت دلفت بيتاً شعبياً بسيطاً تقام فيه أمسيات غنائية تجمع بين الطقوس والفنون من تراث ريفي وشعبي كما تجمع بين الموسيقى والرقص. تلك الفنون والطقوس مصرية -سودانية تتنوع بين مواويل شعبية وأغاني الفلاحين، وأهازيج النوبة، والطقاطيق السكندرية، والذكر السلطاني. في هذا البيت البسيط البناء والديكور الذي يدعى"مكان " هو اسم قاعة المركز المصري للثقافة والفنون في شارع سعد زغلول بالقاهرة. وهو موقع للمحامي والصحفي عبد القادر باشا حمزة (1880-1941) حيث اتخذه قريباً من بيت الأمة ليؤسس عليه مطابع وجريدة البلاغ (1923) التي استمرت لأربعين يوماً ثم أوقفها البريطانيون . وقد أصدر حمزة جريدة الرشيد التي استمرت ذات العام حتى ما بعد وفاته عام 1956 ثم أهمل المكان حيث أعاد تأهيله، بعد أن كان خرابة، الأستاذ أحمد المغربي ليكون محفلاً بسيطاً يقدم حفلات شعبية منذ عام 2004. هكذا الشعوب التي لا تنجسم إلا مع تراثها وفنونها . تعرف كيف تحفظ لها شموعاً مضيئة رغم ظلام الزمن. الملابس والديكورات لها دور كبير وفعّال في عروض مزاهر-هكذا يقال-، حيث يرتدي كل رجال الفرقة الجلابيب البيضاء الزاهية، بينما ترتدي النساء جلابيب فلاحي غامقة، بالإضافة لطرحة رقيقة وشفافة لا تُخفي ملامح الوجه. أما ديكورات"مكان" فهي بسيطة وتتكون من لمبات حمراء خافتة وحوائط جيرية مُقشرة وكراسي خشبية ومناضد من الصاج، بالإضافة إلى "مخدات" أو "شُلت" لزوم الجلسة الأرضية. يملأ المكان كل أربعاء مصريون وسياح من العالم ذوو دوافع مختلفة . يحملون كاميراتهم وفضولهم . يتخذون أماكنهم بهدوء وتنبه. يمكن أن تجد أعماراً مختلفة ، وتجد عوائل تزور المكان. ستجد ثلاث شابات يقتعدن الأرض منسجمات ويتهامسن ، وفي زاوية شابان واقفان بانشداد أحدهما يحمل كاميرا والآخر يرقب العرض من وراء كتف صاحبه. رأيتهما قبلها جلسان على السلم قبالة الفرقة. توجد زاوية في المكان جهزت طاولة بأكواب للشاي والنعناع حيث يتوقف العرض لعشر دقائق لاستراحة. فرقة مزاهر هي من كانت تسود تلك الليلة الأربعائية من كل أسبوع، وقد كان للمغنية الشعبية جمالات شيحا والشيخ يس التهامي حفلات سابقة ، وقد قدمت مزاهر أعمالاً بين الغناء والموسيقى والرقص في الذكر السلطاني والغناء الريفي المصري والسوداني ووصلة زار. تتزعم أم سامح القاعة ، وهي أرضية ، بمستوى مشترك مع الحضور الجلوس على كراسي على شكل قوس وعلى خط واحد في أعلى المكان . حيث الجسد يتحول إلى حنجرة . والآلات إلى أجساد مثقلة بالوجع حد النشوة. تمزج فرقة مزاهر في عروضها بين ثلاثة أنواع من الزار، المصري والسوداني (الذي ترجع أصوله للنوبة القديمة)وزار أبو الغيط (نسبة لقرية أبو الغيط التي يُعتقد أنها منبع الزار الأول)، حيث يستخدمون في عروضهم آلات هي مزيج بين أنواع الزار الثلاثة مثل "الناي" الخاص بزار أبو الغيط وبعض الطبول الغليظة الخاصة بالزار السوداني، بالإضافة للدفوف والرق و"الشخليلة" أو"الشخشاخ"، والصاجات الخاصة بالزار المصري، بالإضافة ل"الطنبورة"( آلة وترية تشبه "السمسمية") والمنجور ( الحزام المزين بأظلاف الغنم). طقس الزار ، وليس فن الزار، يعد من بقايا الطب الاستشفائي من الأمراض النفسية كالكبت والضغوط والصرع، ولكن مع أم سامح يقدم الزار فناً لا طقساً. وهذا يذكرنا بتداخل فن النوبان والطنبورة مع الزار في المالد على سواحل الخليج العربي في الكويت والبحرين وقطر والإمارات بينما يتداخل الزار ورقصة المزمار والخبيتي في فنون الحجاز . يبقى الزار عند أم سامح في إطار الذكر إذ تقول إن الزار يمكن أن يكون علاجاً للمس الأرضى "اللي هو الضيق اللي ممكن يبقى عند أي حد منا، والحركة والغناء بتطلع الضيق دا". وتنتقل من عمل إلى آخر . سجل ثري من المواويل والطقاطيق والأذكار. كذلك الرقصات وضرب الإيقاعات المتنوعة لا ينتهي رغم أن الأمزجة الريفية والشعبية والروحية تسيطر بين إيقاعات ثنائية وثلاثية ورباعية مروراً بسلالم سباعية وخماسية مزيجة بأنغام مألوفة بين البياتي والعجم والرصد ( أو الرست) والسيكا البلدي. "يا شوقي عليك يا باشا يا ماما يا حلاوة عنيك يا باشا يا ماما" تنتهي الأغنية. تصفق الأيادي ويخطف وجوه الفرقة فلاشات الكاميرات. ينهض بعض الحضور متسابقين للتصوير مع أفراد الفرقة. حديث في الزوايا. قلوب ساهمة. عيون تنبض بالطرب. تلم الصبيات الثلاث حاجياتهن. بين أحاديثهن والنظرات. ينجذب طفلين إلى أمهما حيث تشير إلى صور أفراد الفرقة المعلقة في جدران المدخل حين اتجهوا للخروج. عجوز شقراء تقف لتبدي اهتماماً بحديث يجريه الشابان مع أم سامح. يأخذ أحدهما صورة معها. تبتسم لهما وتودع الحضور كما لو كان بيتها . تنطفئ الأضواء الخافتة. يسأل بعض عند المدخل عن موعد الحفلة القادمة. النادل يلم الأكواب، ويزيح بعض الكراسي. يخرج الشابان يمضيان ليقلبا صورهما مع أم سامح. الشارع في القاهرة فرح . ضجيج عند التحرير يزرع المتطوعون الورد والشجيرات في الدوار. ثمة خبر مفرح انتشر في الأرجاء. يعود بأم سامح إلى الزمن.