في هذه الصفحة، نبحر أسبوعيًا مع كاتبنا الرشيق، نجيب الزامل، مستدعيًا يومياته، التي يلخصها لقراء (اليوم) في سبع تجارب ذهنية وفكرية، يثري بها الأفق السياسي والفلسفي والتاريخي والجغرافي والثقافي. إنها تجربة يتحمّلها الزامل وربما نتحمّلها نحن بإسقاطاتها، وتداعياتها وخلفياتها، حتى لا يكون في العقل «شيءٌ من حتى». اليومُ الأول: وحدانية الخلق نحن البشر خيطٌ وحيد في نسيج الحياة المتكامل الذي نشره الله لحافا كونيا لا نتخيل مداه. إننا أرقى وأعظم خيطٍ بين خيوط لا تعرفها أرقامُ الاستيعاب البشري تنسج هذا الكون. هل نحن خلقٌ قائم بذاته، أو متفرد بين المخلوقات كلها بصفاته؟ لنرى. صحيح أن الإنسان متفرد بعقله وخياله اللذين صنعا حضارته وعمرانه، ولكن ليس من الجهة البيولوجية. لو رجعنا للأصول والأسس التي قامت عليها الحياة لوجدنا أن الكائنات الحيّة جميعا بداية من الميكروب الضئيل حتى تنتهي بنا، الإنسان المنتصب القامة العظيم، تخضع لفكرةٍ واحدةٍ وتسري بنواميس موحَّدة، ولكي يتضح لنا ذلك لابد أن نعود لبدايات الخلق الأولى. خلوني أقول لكم عن عالم بيولوجي راعي تصنيفات تضرب برأسِه ثم يصرّ على إجرائها معمليّاً، هو عالمُ أجنةٍ شهير في زمانه قبل عقود اسمه «فون بيير». كان هذا العالمُ مولعاً بجمع أجنة مخلوقات مختلفة من السحالي للطيور وحيوانات ثدية في مراحل خاصة من مراحل تطورها، ثم حفظها في أوعية زجاجية بها مواد حافظة ضد التفسخ والعفن ولثقته الهائلة في علمه وخبرته لم يضع إشارة لكل جنين على حدة ولم يفصلها في أوعية مختلفة بل جمعها جميعا بجزم منه أنه سيتعرف عليها دوما.. لا، الواقع أثبت أن ما عنده سالفة، وهو من قال «كنت أعمى تماما». بعد فترةٍ عاد عالِمُنا ليعيد فحص الأجنّة المجموعة، ولم يستطع أن يفرق بينها، كلها تبدو متشابهة رغم خبرته وعلمه. ثم كتب: «يإلهي، يا إلهي، لا يصدق، كل أجنة المخلوقات في مرحلة من مراحل تكوينها تتشابه!» الحقيقة العلمية أن جميع الحيوانات تبدأ أول خلقها بأن تجري أمورٌ في البويضة ثم فجأة وكأنه ضُغط على زنادها فإذا بها تطلق قذيفة تتكاثر بها الخلايا مثنى مثنى، وتكبر كتلة الخلايا وتتضخم وتتحول إلى ما يشبه كرة صغيرة تضم مئات آلاف الخلايا، لا تكاد تستطيع تمييزها عن أي كرة خلايا لأي مخلوق. إذن، جميعُ الكائنات تبدأ هذه البداية الكروية، وقتها لا نستطيع أن نؤكد إن كانت هذه الخلية الكروية لإنسان أو لخرتيت أو لتمساح، ولا يأتي تمييز الأجنة إلا في مراحل متأخرة من تكوينها – مع أن علم الخلايا والأجنة والجينات تتقدم وربما ستتعرف على ذلك يوما ما ولكن أبدا ليس من المجهر البسيط أو العين المجردة. «جفت الأقلامُ وطويت الصحف»ران على العقل اندهاش طويل أمام أعظم اسرار الحياة التي تؤيد هذه الوحدانية الرابطة في كل شيء .. «وما أوتيتم من العلمِ إلا قليلا».
اليوم الثاني: بين العقل والدين يسأل المهندس حمد الوغيثي: ما رأيك بالنسبة للاستدلال العقلي في الدين؟ شوف حبيبنا حمد، ربما قصدتَ ما فعل جمهورُ العقل من أيام المعتزلة حتى قصة «حي بن يقظان» لابن طفيل، «حي بن يقظان» وجدته غزالة في جزيرة وأرضعته ولما شبّ استدلّ، بطرقٍ شرحها ابن طفيل، على وجود الخالق بلا تدخل من أحد. أما رأيي فهو من منظور شخصي واستنادي أرجو ألا تأخذ به إلا بدارسة أعمق. إن العقل يا مهندس حمد قادر على معرفة الكثير من الأمور بطريق النظر والاستدلال، مثل الاستدلال على أن للخلقِ خالقا، ونحو ذلك من أمور تستند على المشاهدة والفكر والاستنتاج والاستدلال. ولكن هناك أمورا ليس للعقل سبيلٌ للقطع بها، مثل البعث والثواب والعقاب في الآخرة فهذه أمور تحتاج إيمانا وجدانيا نصل به إلى اليقين. حتى حجة الإسلام الغزالي، وهو يعترف بقيمة العقل، يميز بين ميدان العقل وميدان الدّين تمييزا واضحاً، وتعجب من قوة منطقه، وسلاسة استدلاله، وحسن دباجته،انظر إلى كتابه (أي فصل) بعنوان «العلم» من كتب «الاحياء» يقسّم العلومَ إلى علومٍ شرعيةٍ تُستفاد من الأنبياء ولا يُرشِدُ إليها العقلُ، ولكن العقلَ يستنبط فروعا من أصولها. وما وجدت وصفا للعقل والدين أرتاح إليه مثل هذا: العقل للمشاهدات، واليقين والوجدان، والكُلِّيات أصولٌ ليست مجال العقل، وأما الاستنباط منها فهو أمور يبحث بها العقل. والله ورسوله أعلم.
اليوم الثالث: ندوة المحتوى الرقمي في يوم الكتاب العالمي بأرامكو قبل الأمس كنت بدعوةٍ من الصديق الراقي التأثير، والمثقف الإنساني «فؤادالذرمان» الذي يشرف على حراكٍ ثقافيٍّ لم تعهد «أرامكو» مثله من قبل، ولم يتيسر لي الحضور إلا في بعض فقرات النقاش حول المحتوى الرقمي الفكري. شدني الموضوعُ تماما، موضوع أن أرامكو تقدم لنا مشروعا حيويا فكريا حاضرا وحيّا في مكان ليس من طبيعته أبدا التناظر الفكري الصرف بشركةٍ عملية في ميدان لا يعرف إلاّ الواقعية في مجال النفط. تطرق المتحدثون الى أثر قوة التأثير الرقمي الكتابي: هل سُحِب البساطُ عن الصحافة المكتوبة؟ واسمحوا لي أن أتكلم عن سلطات رؤساء التحرير التي صارت في بعض الصحف الورقية أساطير كجرائد كالأهرام أيام هيكل ونافع، والأخبار أيام مصطفى أمين وتوأمه علي، وهما مصريتان. وقوة آل المساعيد في السبعينيات في «الرأي العام» و»النهضة» الكويتيتين، وقوة رئيسي تحرير- بنسبة ظرفية تختلف- جريدتَي الرياض، الأستاذ تركي السديري. والجزيرة، الأستاذ خالد المالك. أعطي مثالا شاهقا على قوة رئيس التحرير ليس من عندنا، ولكن من أمريكا، وكيف صارت دورياته الآن لا تشكل سلطة تأثيرية أو تحويرية بل يمر رؤساء تحرير لا تكاد الذاكرة تستعيدهم. أتكلم عن مجلة «التايم» الأمريكية، أقوى مجلة أسبوعية في العالم - من يعرف اسم رئيس تحريرها الآن، أو من يهتم؟ تغيرت طبيعة وقلب الإعلام بما لم يتخيله أحد قبل عقود. «التايم» عندها أخوات محترمات، ال»لايف» الاجتماعية العالمية الاحتفائية، وال»فورتشن» مجلة الغِنى والاقتصاد الأولى في العالم، وكان ذاك بزمان الصحافة المطلقة بالأربعينيات والخمسينيات- وعندي اعدادٌ قديمة من التايم والنيوزويك- رئيسا تحرير هاتين المجلتين كانا قيصران على عرشين حقيقيين، وبالذات رئيس تحرير التايم وأخواتها الكرام، إنه الأسطورة الذي يسمى نفسه ملك العالم، ثم وافق العالم الإعلامي وصار يسميه القيصر، وهو «هنري لوس». أقرأ ماكتبه نجم صحافة أمريكا في أواسط القرن العشرين «تيودور هوايت» الذي استقال بسبب هيمنة «لوس» على العالم أو على اخبار العالم حرفيا، ليس بما يخدم أمريكا رئيسة العالم الحر كما كان يسميها «هوايت»، بل بما يخدم أغراض وتوجهات وأماني وأحلام وأجندات «لوس» نفسه. وستقرأ في كتاب «ملوك أقوى من الملوك» وهو كتاب لم ينتشر كثيرا، اشارة لحادثٍ غريب، وأظن أن هوليوود تعرضت له عندما أنتجت فلما عن «دوايت أيزنهاور» جنرال الحرب الكونية الثانية الشهير، ورئيس أمريكا في أواخر الخمسينيات، عن كيف كان يكاد يذل نفسه والأمة معه من أجل رضا وشطحات القيصر «لوس». ويقول «هوايت»: إني تركت العمل في التايم لأن «لوس» يجمع الحقائق من كل مراسليه في العالم ثم يعيد منتجتها في إدارة سرية طبق هواه ومبغاه ويعيد تقديم أخبارٍ لا بديل لها في العالم، فيصدقه العالم». إن «لوس» -على فكرة- كي لا ننسى، مِن أكبر مَن ساهم بوضع قضايانا على الطريق الشائك والمؤلم، ودفع سياسة أمريكا في الشرق الأوسط إلى أكبر غلطةٍ استراتيجيةٍ قامت بها حتى الآن. الآن صار نوعُ «لوس» قصصاً تروى كقصص توت عنخ آمون وقيصر روما وقياصرة الميجي والهون في الشرق، فقد جاء إعلامٌ جديد.. على أن هذا ملحمةَ روايةٍ أخرى!
اليوم الرابع: قصة الجميلة البراقة «بحر النور»2-2 نعود لقصة الجوهرة «داريائي نور» أي «بحر النور» التي تحدثنا عنها في النزهة السابقة.. قلنا إن مالكها الذي وقعت بيده كغنيمة حرب، هو الملك الفارسي نادر شاه، جاءه ما قيل أنها لعنة حلت به والتي أصابت كل من ملَكها من قبله، وتفاقم عنده هوَسٌ عقلي من التقدم بالعمر فانتحر، وقيل ان حُرّاسَهُ قتلوه. بعد وفاته صارت فوضى عارمة وهرَجا عظيما، وسط الأحداث سُرقت الجوهرةُ النفيسة مرة أخرى. ومرت عليها سنوات حتى ظهرت بملكيّة ثري أمريكي ضبابي مغمور عُرف أن اسمه «شافراس».. وجرت له كما أشيع مأساة تراجيدية ثم اختفت الجوهرة بغموض ولم تُرى بعد ذلك أبدا. شك ناسٌ بالأمريكي وحكوا أنه داهية واستغل الاعتقاد بشؤم الألماسة العملاقة وروَّج ماسته، بينما يعتقدون أنه قطّعها أجزاءً وباعها بأثمانٍ خرافية. وما زالت الماساتُ المقطعة أيضا من أكبر الماسات المعروفة في العالم.. لا أطيل عليكم ترحّلت الماسة الأكبر بينها بين مُلاّكٍ غامضين وكوارث أغمض أصابتهم، ثم نُسيت في بئر الذاكرة، حتى ظهرت مع أشهر عائلة تحكم أكبر بلد على الأرض وهم «آل رومانوف» قياصرة روسيا قبل الثورة البلشفية، وربما تعرفون ما حلّ بهم من فظائع بعد الثورة من البلاشفة الحمر لا مكان لذكرها هنا، سُلبت ثرواتُهم ومنها أكبر قطعة من ألماس السيدة المأسوف عليها «بحر النور»، واستقرت في خزانة الكرملين إلى يومنا هذا.
اليوم الخامس: من الشعر الأجنبي، أترجمه بتصرف- «بعنوان لو كنتِ أنت السماء، وأنا كنتُ البحر» If you were the sky Then I'd be the sea And when you shined bright It would reflect in me. When you're at rest Then I am steady. If you wanna get rough I'm always ready. Past closing at the bars If you show me the stars I'll open right up And cast them out far. And on the darkest night If you won't shine a light. Then I'm silent alongside you Until you feel right. We'll meet at the horizon لو كنتِ أنت السماء، وكنتُ أنا بحرا، تشعّين بسطوع، يتناثرُ إشعاعُك عليّ ليلا وفجرا تكونين في حالةِ صفاءِ، أكون أنا راكداً بارد الدِّماءِ ولمّا تعتريك مشاهدُ الغضب، سأكون مؤجِّجاً بجانبكِ كالوَقبِ وإن كشفتِ لي من وراء الغيومِ، لمعانَ بريق النجوم سأحصدهم من البعد السحيق على سطحي لأشابهك بالبريق وفي ليالي الدياجير والريح، عندما تنطفي كل المصابيح سأكون بجانبك كناسِكٍ في صمتٍ عميق.. وحين تتعافَيْن نلتقي بتقاطع الأفُقِ الرقيق!
اليوم السادس: قصة لقلبك قصة واقعية: تزوج شابٌ فتاةً جميلةَ الأخلاق قدمت له كل علاماتِ المحبة والخدمة والاحترام والتجاوب السريع، بعد مدة احتار بطبعها وضاق منها، وصار لا يبقى بالبيت، بل تعدى وصار يشتمها ويعتدي عليها، ولم يعْلم أحد، فلم تكن تتكلم بل تظهر السعادة أمام الجميع.. ثم صرح لأهله وأهلها بأنه لا يطيقها. طلقها، وعادت لبيت أهلها. الشاب تزوج مرة أخرى من امرأةٍ وقع في حبها، وقع من أعلى رأسه لأخمص قدميه. تلاعبت به، وكانت تجد متعة باستغلالة وتبذير امواله بشكل لا يقبله عقل ولا منطق، وتعايره وتستهزئ به أمام أهلها وأهله، ومنعت أهله من زيارتهم. ثم أنجبت طفلة، وحملت مرة أخرى وأنجبت صبيا. طلبت منه الطلاق، ورمت عليه البنت واحتفظت بالصبي مع حقه بالزيارة. عاش الشابُ بائسا، ومعه طفلة لا يعرف كيف يتعامل معها، وهنا تذكر زوجته الأولى وقد مضى أكثر من أربع سنين على طلاقهما ولم تتزوج بعده. تقدم لها، وقالت: «كنتُ جاهزة من أول يوم عدت به لأهلي»، واعتنت وأحبت الفتاة الصغيرة وتولع بها الصبي الصغير الذي يأتي في العُطل. اشترى الزوج بيتا جميلا، وسماه باسم زوجته، وأعطاها صك ملكيته.. ولما وجّه الدعوة لحفلة السُكنى ذيّل بطاقته: «اسعد زوج على الأرض!»
اليوم السابع: من رأى غترتي وعقالي؟ أنبه الى أن هذه الحادثة، إن تشابهت في الموقع أو الشخصيات أو الأحداث، فهي مجرد اسماء خيالية: في مستشفى فتح المريضُ عينه بعد العملية الجراحية، وهتف: «الحمد لله لك يا ربي انتهينا». فالتفت إليه المريضُ الذي بجانبه، وقال له: «اصبر لا تستعجل، ترى الجراح نسى مبضعه في بطني. «وانقلب مريضٌ آخر مُعْلِياً نبرة صوته: «هي أنت يآخي وراك ما تصبر؟ ترا الجراح نسي اسفنجة في بطني، وكلنا سوينا العملية مرتين.» في هذه اللحظة فتح الجرّاحُ البابَ وسأل الممرضات: «ما حد منكم شاف غترتي وطاقيتي وعقالي؟» فما كان من مريضنا الأول إلا أن غاب عن الوعي!