يثير "التوطين الاقتصادي" للسوريين، في الأردن، جدلاً صاخباً في بلد هي "مملكة اللاجئين" بامتياز، فيما تظل الدولة، الأرض والإنسان، على حواف مجهولة المصائر، خاصة مع مجمل الضغوطات الإنسانية والاقتصادية والأمنية التي تعترضها. ثمة مخاوف متجذرة من سيرة اللجوء، تمتد إلى عقود طويلة، وتشكل قِوام العقل الجمعي للأردنيين، الذين انفتحوا مبكراً على "الآخر"، الفار من ويلات بلاده، وتعود الذكريات دفعة واحدة مع ظلالها الثقيلة، حين تُذْكَر قضية اللاجئين السوريين في الأردن. لا أحد على الإطلاق، على الأقل هنا في الأردن، يمتلك إجابات وافية عن مستقبل السوريين، اللاجئين أو أولئك المرابطين في وطنهم، خاصة في ظل تشبث نظام بشار الأسد بالسلطة، ومواصلة حلفائه دعم طغيانه بآلاتهم الحربية، ما يعني تدفق المزيد على الجوار السوري. "المستوعبات" الأردنية، أو "مخيمات" اللجوء السوري، فاضت بالفارّين من القتل، ليتمدد هؤلاء بكثافة في مدن محافظات شمال وشرق ووسط الأردن، وكذلك الحال - وإن بدرجة أقل كثافة - في جنوب البلاد، بينما تقف الدولة عاجزة عن استيعاب هذه الطفرة السكانية الكبيرة. أعداد اللاجئين السوريين في الأردن تعتبر مثار جدل، إذ تتضارب الأرقام الرسمية الأردنية حيال عديدهم، وتتراوح في أحدث التصريحات بين 1.3 – 1.6 مليون لاجئ سوري، فيما لا تسجل أعلى التقديرات لدى المنظمات الدولية والدول المانحة سوى 937 ألف لاجئ، ما يعني وجود فارق يتراوح بين 363 - 663 ألف لاجئ. "تكمن أهمية أعداد اللاجئين السوريين في تفسير حجم المساعدات المخصصة للأردن"، وفق رئيس لجنة احترام القانون الإنساني التابعة للاتحاد البرلماني الدولي سمير عويس. يقول عويس ل "اليوم"، وهو – أيضاً - عضو في البرلمان الأردني، إن "تباين أعداد اللاجئين السوريين، بين الأرقام الحكومية وأرقام المنظمات الدولية، يدفع الدول المانحة نحو الحد من مساعداتها، الأمر الذي يحتاج إلى تسوية مع مختلف الأطراف لضمان تدفق المساعدات". وتساور الدول المانحة، تحديداً الأوروبية، "شكوك عميقة" حيال حقيقة النسب التي تتحدث عنها السلطات الأردنية، وفق عويس، وهي النسب التي تشير إلى تحمُّل ميزانية الدولة الأردنية الحصة الأكبر من الكلفة الحقيقية للاجئين السوريين. الأرقام الحكومية، التي اطلعت عليها "اليوم"، تشير إلى أن المساعدات التي يتلقاها الأردن بالكاد تفي بنحو 35% من تكلفة استضافة اللاجئين السوريين، ما يلقي بأعباء ثقيلة على خزينة الدولة، دفعت – أخيراً - العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني إلى التحذير غاضباً "سينهار السد"، وهي العبارة التي استدعى بها النُصرة الدولية لبلده. العاهل الأردني في مجمل مقابلاته الصحفية، يستخدم لغة دبلوماسية، بيد أنه خرج على تقاليده في مقابلته الأخيرة مع ال "BBC"، وخاطب المجتمع الدولي بلغة مختلفة، وقال: "نفسية الشعب الأردني بلغت درجة الغليان"، و"سينهار الأسد عاجلاً أو آجلاً على ما أعتقد"، وهو الحديث الذي أستبق به مؤتمر لندن، المخصص للمانحين، وعبّر فيه عن خيبة أمل عميقة. وتعترف المفوضية السامية لشؤون اللاجئين بأن الأردن، ورغم أنه ليس طرفاً في اتفاقية عام 1951 الخاصة بوضع اللاجئين، إلا أنه يعتبر السوريين كلاجئين، ويوفر مساحة حماية مواتية بشكل عام، على الرغم من هشاشتها نظراً للتحديات الاجتماعية والاقتصادية التي تواجهها البلاد؛ فيما تكشف بيانات المفوضية، التي اطلعت عليها "اليوم"، على شمول "غالبية" اللاجئين بمظلتها التمويلية. "الأردن أدرك متأخراً حقيقة مخاطر قضية اللجوء"، يقول الأكاديمي والخبير البروفسور عدنان هياجنة، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة قطر، ويضيف "في بداية الأزمة السورية لم يُدرك الأردن الرسمي حجم التأثيرات التي ستتعرض لها البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية للدولة الأردنية، وقَبِل بفتح الحدود وفق منظور مثالي". ويرى الهياجنة، في حديث هاتفي ل "اليوم" من الدوحة، أن "الأردن اكتفى بادئ الأمر بالمساعدات المقدّمة، على أمل المزيد منها، دون أن يدرك حقيقة أن المتوسط العام لبقاء اللاجئ في دول اللجوء هو 17 عاماً، وهي فترة زمنية طويلة نسبياً، وتستدعي تجاوز النظر إلى اللجوء من باب المساعدات إلى أبواب أخرى، كتأثيراتها العميقة على المجتمعات المضيفة". ويذهب الهياجنة إلى التأكيد على "ضرورة توظيف الدول المضيفة للاجئين ل "مقاربة عقلانية" في التعامل مع القضية، وهي "مقاربة تقيس بدقة حجم المنافع والمضار، التي تلحق بدولة اللجوء نتيجة الاستضافة القصيرة والطويلة زمنياً". ويضرب الهياجنة عدة أمثلة على حالات اللجوء التي شهدها الأردن على مدى سنوات الدولة، سواء في حروب فلسطين أو احتلال العراق، والصراعات الأخرى التي شهدتها، ويرى أن "نسبة كبيرة من اللاجئين استوطنت الأردن، وأحالته إلى مملكة اللاجئين". قُبيل "مؤتمر لندن، رفض الأردن استقبال 16 ألف لاجئ سوري تجمعوا خلف "الساتر الترابي"، الذي يفصل نقاط عسكرية أردنية عن الأراضي السورية، واكتفى بتمرير أعداد بسيطة لاعتبارات إنسانية، مُبدياً مخاوف من "اختراقات أمنية في صفوفهم"، وفق وزير الإعلام الأردني د. محمد المومني، ما أثار حفيظة دول أوروبية، وهو ما ردت عليه عمّان بالقول: "إذا أردتم استضافتهم فنحن جاهزون لنقلهم إلى دولكم"، في محاكاة للنموذج التركي في التعامل مع المانحين. "تكتيك الساتر الترابي" أتاح للأردن، في "مؤتمر لندن"، "امتيازات تصديرية لدول أوروبا" و"مساعدات اقتصادية متواضعة للاجئين"، ضمن خطة تمتد لثلاث سنوات، لكن في مقابل ما بات يُعرف ب "التوطين الاقتصادي" للاجئين السوريين، وب "ضمانات أردنية" توفّر بيئات "إقامة" و"عمل" و"تعليم" مناسبة، وفق مصدر حكومي رفيع. يقول مصدر مطلع على القضية، في تصريح ل "اليوم"، إنّ "الأردن انتزع بعض المكاسب، لكنها لا تفي بحال من الأحوال بالاحتياجات المالية المخصصة للاجئين، وكذلك لا تقدم مُعالجات للمخاوف والتأثيرات على بُنى الدولة"، وهو ما تجنب الرسميون الأردنيون الحديث بشأن تفاصيله. ويضيف المصدر، الذي طلب عدم الإفصاح عن اسمه، أنّ "ما تمخض عنه مؤتمر لندن يُعد استجابة دولية منقوصة، وترويجه رسمياً يأتي كاستجابة للضمانات المطلوب من الأردن الالتزام بها، ولتخفيف حدة الاحتقان الداخلي". "التوطين الاقتصادي" للاجئين السوريين يعيد إلى ذهن الرأي العام الأردني "وكالة الأممالمتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين"، المعروفة اختصاراً ب "الأونروا"، التي ساهمت في مساعدة الدول المضيفة على توفير بيئات عمل وتعليم وإقامة أفضل لاستيعاب اللاجئين الفلسطينيين، دون أي جهد حقيقي لإعادتهم إلى وطنهم، رغم التباين بين الجانبين في المرجعية المؤسسية. في "مؤتمر لندن"، تقدّم الأردن إلى المجتمعين بوثيقة رسمية لم تنشر، اطلعت عليها "اليوم"، عنوانها "عقد الأردن: طريقة شمولية جديدة بين المملكة الأردنية الهاشمية والمجتمع الدولي للتعامل مع أزمة اللاجئين السوريين"، وهي وثيقة تدعو إلى تقديم معالجات شاملة لتأثيرات أزمة اللجوء على المملكة الأردنية، بما يضمن إدماج السوريين "رسمياً" في السوق والتعليم، وكذلك توليد فرص عمل للمواطنين الأردنيين، عبر مقاربة قِوامها "حفز التنمية الاقتصادية، ودعم السياسات المالية والنقدية". عملياً، اللاجئون السوريون نجحوا في اختراق سوق العمل منذ وصولهم للأردن، ودون توفير غطاء رسمي للأمر، ويمكن ملاحظتهم في مختلف القطاعات التي تتناسب ومهاراتهم وحرفيتهم، بيد أنهم خضعوا ل "أجور أقل من نظرائهم من العمالة الأردنية والوافدة الأخرى"، فيما ستتيح تنظيم أوضاعهم قانونياً إدماجهم في السوق "بيئات عمل عادلة"، بحسب عامل البسطة أحمد القاوشلي. القاوشلي لاجئ سوري خمسينيّ، غادر حمص منذ نحو عامين، يمتهن بيع الخضار والفاكهة، ويرى في التوجه الجديد "خطوة لتحسين الأوضاع"، دون أن يغفل مديح "الدولة المِضياف" الأردن، بحسبه. تحسين شروط اللجوء للسوريين، عبر "التوطين الاقتصادي"، يصب في صالح إيجاد واقع أكثر إنسانية، ويحد جزئياً من معاناة اللجوء، وهو حق إنساني أصيل لا يمكن تجاوزه، لكنه في المقابل يثير مخاوف الأردنيين، الذين يرون أن هويتهم وكيانيتهم باتت مهددة، وهي مخاوف مشروعة في ظل نتائج تعداد سكاني أجرته السلطات أخيراً. التعداد السكاني، رغم ما أثير حوله من لغط، كشف النقاب عن نمو عدد سكان المملكة إلى نحو 9.5 مليون نسمة، منهم 6.613 مليون مواطن أردني، و2.918 مليون مقيم غير أردني، ما يعني أن نسبة غير الأردنيين تناهز 30% من إجمالي عدد المتواجدين على أرض الأردن، نسبة السوريين بينهم هي النصف تماماً، وفق ما تحدث به مدير عام دائرة الإحصاءات العامة الأردنية د. قاسم الزعبي أمام "اليوم". ما لم يتحدث عنه التعداد هو أن نصف المواطنين الأردنيين هم من أصول فلسطينية، اكتسبوا المواطنة الأردنية وفق ترتيبات سياسية شهدتها سنوات الصراع مع "إسرائيل"، ما يحيل الأردنيين (أو من اصطلح على تسميتهم ب "الشرق أردنيين") إلى أقلية واضحة، لا تتجاوز نسبتها في أحسن الأحوال 35% من إجمالي المقيمين في الأردن، وهذا بحد ذاته يثير مخاوف عميقة بشأن الهوية الوطنية ومستقبل الدولة برمتها، فضلاً عن الضائقة المعيشية المزمنة، التي يعانيها الأردنيون عموماً، وتتفاقم مع الوافدين الجدد، وتأثيراتها العميقة على استقرار دولة طالما تغنت بأنها "واحة الأمن والأمان".