تنتقل الذاكرة الشعبية للفلسطينيين بين الأجيال بعدّة طرق ووسائل، أهمها: الغناء الذي يعدُّ خزّاناً للوقائع، الأحداث، الهزائم، الانتصارات، ولأحوال الشعب في مختلف مناحي الحياة. فالأغنية الشعبية شاركت على مرّ الأزمان في تجسيد صور المعاناة تارّة بالتظاهرات والإضرابات والاعتصامات، وتارّة بالهراوات، الحجارة، والكلمة الاحتجاجية التحريضية. هذه الأغنيات المتوارثة دليل امتلاكهم القدرة على التوحّد الوجداني والحضور كمجتمع متماسك وكأمّة لها ذلك الإرث والكيان الروحي والفني. الشعوب الحيّة التي تمتلك إرثاً ثقافياً يكون لديها الاستعداد دائماً لتحويل أبسط حدث إلى قيمة حياتية نضالية؛ لأنها تكون على الدوام متأهبة للدفاع عن قيمها بكل الطرق وبمختلف الوسائل والأدوات، وهذا هو ما فعله الشعب الفلسطيني قبل أيام عندما حوّل كلمة «بهمّش» التي قالها شيخ بشكل عابر إلى أغنية شعبية صارت بمثابة الصرخة التي تختصر آلام الإنسان الفلسطيني. وذلك حين تقدّم الشيخ «زياد أبو هليل» نحو جنود الاحتلال في مدينة الخليل، في محاولة منه لمنعهم من إطلاق النار تجاه الشباب المتظاهرين، فاشتكى أحد الجنود (يا حج بيضربوا علينا حجارة) ليرد عليه الحاج قائلاً: (بهمّش.. خليهم يضربوا). ومنذ انتشار هذا الفيديو تحوّلت (#بهمش) إلى هاشتاق عالمي على مواقع التواصل الاجتماعي، كما أطلق الفنانان الشعبيان «محمد أبو الكايد»، و«نور الدين أبو الهيجا» أغنية جديدة بعنوان «بهمّش»، التي تتحدث عن الاعتداءات الإسرائيلية واستهدافها المواطنين الفلسطينيين بشكل يومي.تزامن انتشار الهاشتاق والأغنية مع قيام قوات الاحتلال بإغلاق مدينة الخليل، عقب عمليتي إطلاق النار تجاه جنود الاحتلال المتواجدين في البلدة القديمة، فقام سكان المدينة باستخدام كلمة «بهمّش» على مواقع التواصل الاجتماعي، ضمن قالب ساخر، تعبيرًا منهم عن عدم اكتراثهم لإجراءات الإغلاق والتضييق.وعندما يهبّ الشعب الفلسطيني بمجمله ليغني هذه الأغنية فإنه إنما يؤدي دوره في الدفاع عن أرضه وتراثه. لأنه تعرض على مدار التاريخ إلى حالة من النهب المنظّم لتراثهم وقيمهم بالإضافة إلى أرضهم، حيث تم السطو على الأزياء والمائدة الفلسطينية والحكايات والسرديات... وغيره، وذلك بالتحديد ما يفسر قائمة طويلة من الموروث الفلسطيني بين الأجيال، وكأنهم يريدون من خلال هذه الأغنيات توطين الإحساس الفلسطيني وبعث رسالة لباقي الشعوب بأنهم باقون. فمهما بلغ العدوان الصهيوني حدّه من هدم للبيوت واغتصاب الأراضي والحقوق، ومهما بلغ الاحتلال أشدّه لا يمكنه أن يمنع أو يحدّ من انتشار أغنية صنعتها كلمة عابرة، خاصة أن العدو الذي احتل الأرض ما زال يحاول بقوة تزوير التاريخ وسرقة التراث ونسبه إلى غير أهله.