ليس في مجتمعاتنا العربية فقط، بل في جميع أنحاء العالم، يُنظر إلى الثقافة الشبابية المتولّدة في فضاء الإنترنت على أساس كونها ثقافة غير ناضجة، سواء على مستوى القيم أو الإنتاج الإبداعي. إذ لا يتردد الأكاديمي الأمريكي مارك بيورلين في وصف هذه الموجة الشبابية بالجيل الأغبى، ويقصد من هم دون الثلاثين عاماً، فهم - من وجهة نظره - ( جهلة، لا يعرفون التاريخ وغير قادرين على البقاء منسجمين لأكثر من خمس دقائق في قراءة كتاب ). وذلك في كتابه الذي يحمل نفس العنوان مع عنوان فرعي صاخب النبرة ( كيف بلّد العصر الرقمي الشباب الأمريكيين وجازف بمستقبلنا؟ ). وربما تكون تلك النظرة المتشائمة مجرد زفرة من أكاديمي مسن لا يثق في أي شاب دون الثلاثين، وما زال يعيش أوهام الماضي الجميل، إلا أن رأيه يتعزّز بوجهات نظر أكثر حدّة. حيث يميل الفرنسيان فرانسيس بيزاني ودومنيك بيوتيه، إلى اعتبار الانترنت فضاء اجتماعياً للمراهقة، بكل ما تحمله هذه الكلمة من تضئيل، حيث سمحت شبكة الإنترنت بتفشي ثقافة المراهقة وبروز ما بات يُعرف بجيل الديجتال، أو جيل غوغل، الذين ولدوا وكبروا قبالة الشاشات. والمسألة هنا أكبر من مجرد اختلاف وجهات نظر ما بين جيل تربى على التأني والفحص والتحليل مقابل جيل مستعجل يعتمد المعلومة النيئة والتواصل اللحظي. إذ تبدو عدوى تلك الثقافة المراهقة صريحة وصادمة، كما تتبدى مثلاً في لغة التخاطب المعتمدة بين الشباب، الخارجة على قوانين الصرف والنحو والإملاء ومهارات التعبير الكتابي، المشبّعة بعلامات وأيقونات باتت لغة عالمية أقرب ما تكون إلى الشفرات والرموز، التي تحيل التعبير اللغوي إلى فوضى. كذلك يمكن النظر إلى خدعة الأسماء المستعارة على أساس كونها وقوداً لفوضى مضاعفة، يتمكن من خلالها صاحب الاسم المستعار من تخريب النصوص والقيم واللغة والعلاقات والمشاعر دون أي رادع، لأن صفته داخل النت هي صفة رقمية وليست صفة شخصية. وهو الأمر الذي يتيح له تقديم صورة مضلّلة عن شخصية، صورة تصعيدية بالمعنى النفسي، ولا تمت إلى الواقع بصلة، مع إمكانية الانسحاب من الشبكة أو الموقع أو المجادلة في أي وقت، ودون أن يتحمل أي شيء إزاء مواقفه الأدبية، وهي مساحة تساعد على تعاظم الهامش التسلوي وتقليص مساحة الجدّية. وعندما يتم فحص تلك الثقافة الشبابية على محك الثقافة يلاحظ أنها قتلت مفهوم ( القارئ ) لصالح مفهوم ( المتصفّح ). فمعظم الشباب لا يقرؤون الكتب والبحوث والدراسات والصحف، بل يمارسون تصفُّح المواقع بلا مبالاة ولا هدف، وغالباً ما يلجأون إلى المواقع التجميعية، التي تنتقي تقارير ومقتطفات مختصرة وتبثها في رسائل ذات طابع ترفيهي، يوهم المتصفح بحضوره في قلب الحدث، فيما هو يمارس التسكع على هامش المعلومة الحقيقية المختزنة في منظومة المعارف والفنون والآداب. كل تلك المظاهر تبدو نتيجة طبيعية للاستخدام الكثيف للشبكة العنكبوتية وملحقاتها، وإدمان الشاشة بمختلف أنواعها وتمثيلاتها الاتصالية، وهو الأمر الذي يفسر مغزى سؤال المحلل الانترنتي البريطاني نيكولاس كير عن حقيقة أثر ( غوغل ) على ذكاء الإنسان وتحجيم عقله. فالانهمار الرقمي، الذي يعشقه الجيل الشبابي، لم يؤثر فقط في تلقي المعلومة، بل أحدث تغييراً جوهرياً في السلوك الاجتماعي، وطريقة الكلام، واللقاء، والاستماع، وبالتالي أثر في شكل الاستيعاب والتعبير عن وجود الذات. إن الرسائل الكثيرة التي يتبادلها جيل اليوم بشكل لحظي، لا يُراد منها تبادل المشاعر والمعلومات، إنما هي طريقة للبقاء على اتصال دائم، وإخبار الآخرين عن الأجندة الشخصية اليومية، وهو الأمر الذي يفسر تعلق الناس اليوم بأجهزتهم الذكية، التي تكفل لهم التواصل عن بعد مع كائنات افتراضية غائبة، وتعزلهم عن شخصيات حقيقية في محيطهم المعاش. وهو منحى يؤدي إلى البلادة الشعورية حتماً، إلا أنه ليس سلوكاً شبابياً فقط، كما يحاول الكبار الترويج لهذه الفكرة، بل هو طقس عالمي يتجاوز الأجيال والفئات العمرية، إذ لا مجال للانفكاك من سطوة التكنولوجيا واقتسام غباء التعامل بالآلات والأجهزة التي يسمونها ذكية. * ناقد