لاحظ أحد المارة عاملين يؤديان عملهما على الرصيف، وقد شدَّ انتباهه انهماكهما في العمل بحماسة منقطعة النظير، لكنه لم يفهم طبيعة عملهما. اقترب منهما وسأل: "أنا أقدّر روحكما العالية في أداء العمل، لكن ما هذا الذي تقومان به؟ لاحظت أن أحدكما يحفر حفرة ثم يقوم الثاني مباشرة بردم الحفرة.. وهكذا على طول الرصيف. ردّ عليه أحدهما موضحا: ينبغي أن يكون معنا شخص ثالث لزراعة الأشجار لكن لديه اليوم إجازة مَرَضية! هذه نكتة، ولا تصبح كذلك ما لم تعتمد المبالغة والتضخيم، لكنها تعبّر عن خللٍ ما، وهي أبلغ في التعبير عن الواقع من وسائل التعبير الأخرى، كما أنها تختصر الطريق إلى المعنى. كل يقرأ هذه النكتة بطريقته الخاصة، فقد يرى فيها بعضهم تعبيرا عن الآلية التي تعمل بها بعض الأجهزة البيروقراطية، وهي آلية لا تخضع للمنطق أحيانا. هنالك عاملان يؤديان مهمتهما، والعامل الثالث غائب، ربما تكون الأشجار موجودة، وقد لا تكون كذلك، لكن هذا لا يعني شيئا إذا كانت مَلَكَةُ الاجتهاد وروح المبادرة غائبة. عامل الأشجار "مُشْ موجود" فإما أن يتوقف كل شيء، أو يسير بالطريقة السريالية التي عبّرت عنها النكتة. في كثير من الحالات يسمع المراجع لإدارات القطاع العام عبارة "مُشْ موجود". هنالك، دائما، عامل أو موظف أو مدير "مُشْ موجود". "المدير مُشْ موجود"! لا بأس. نسال الله أن يعيده في اليوم التالي إلى مكتبه سالما غانما، لكن لماذا تتعطل معاملة عادية لو أعطيت صلاحية التوقيع عليها لأي موظف آخر لما اختل نظام الكون البيروقراطي؟ ولماذا يحتكر بعضهم التوقيع حتى على نموذج تحويل موظف مصاب بأنفلونزا الطيور إلى المستشفى؟ يبدو أن شخصا آخر " مُشْ موجود" في هذه الحكاية الظريفة أيضا. فقد كان على أحد العمال أن يدهن الخطوط البيضاء في وسط الطريق السريع. في اليوم الأول دهن ستة أميال، وفي اليوم الثاني دهن ثلاثة أميال فقط، وفي اليوم الثالث دهن أقل من ميل واحد، وعندما سأله المشرف عن أسباب تناقص عدد الأميال المدهونة يوما بعد آخر، قال العامل: "ليس بالإمكان أكثر مما كان، ففي كل يوم أصبح في موقع أبعد من اليوم الذي قبله عن علبة الدهان"! فإما أن يكون هذا العامل من الحمقى، أو أن الشخص المسؤول عن نقل علبة الدهان " مُشْ موجود"! للسيدة فيروز أغنية تقول كلماتها: "ها السيارة مُشْ عَمْ تمشي/ بدها حدا يِدْفِشْها دفْشِه/ بيحْكوا عن ورشة تصليحْ/ ومَا عرِفْنا وَيْن الوِرشِة"!" وتعبّر كلمات هذه الأغنية عن حال بعض الإدارات والمؤسسات التي هي بحاجة ماسة إلى تلك الورشة، ولن يُعثر على الورشة إلا إذا توفرت الإرادة والرغبة في الإصلاح. لكن بعض الإدارات تجد أن مواجهة الشكوى أسهل بكثير من معالجة المشكلة، فهنالك طرق كثيرة للرد على الشكوى، وهي جميعها لا تكلف شيئا، ومنها إيجاد المبررات والحجج الواهية، أو تعليق المشكلة على شمّاعة ما، أو تطبيق المثل القائل: "إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب"! [email protected]