لا أدري من الذي ابتدع عبارة «كلام جرايد»، لعله بيروقراطي يدافع عن أداء المؤسسة التي يديرها. وهي عبارة تلقَّفها الناس وقبلوها على علاّتها. لم يكلف أحدٌ نفسه فيسأل: هل كل كلام الجرائد «كلام جرايد»؟ وهل الكتب، كل الكتب، أصدق إِنباءً من الجرائد؟ وماذا عن بقية وسائل الإعلام المرئية والمسموعة؟ ألا يمكننا أن نستخدم التعبير نفسه فنقول: «كلام فضائيات.. وكلام إذاعات.. وكلام مواقع إلكترونية»؟ أراد مبتدع تلك العبارة أن يقلل من مصداقية ما تنشره الجرائد. ويبدو أن الذين رسَّخوا العبارة في ذاكرة الناس، أيا كانت الوسيلة الإعلامية المستخدمة لنقل تلك الأخبار، هم آفة الأخبار، أي رواتها، ورواة الأخبار في زماننا هم المحررون والمراسلون، وأضيف إليهم، هذه الأيام، شهود العيان. ولأن المراسلين والمحررين ليسوا سواء من حيث الموهبة والتأهيل والإتقان، يمكن القول أيضا إن (مهنة المتاعب) ليست متعبة ألبتة لمن يأخذ بمبدأ (مشّي حالك)، مشّ حالك.. ثم اقبض (المقسوم) في نهاية كل شهر. هي مهنة المتاعب والمتعة أيضا لمن يؤمن بأنها منزلة بين الفن والعشق. أذكر قبل تطور الاتصالات على هذا النحو المذهل. أي قبل تعدد قنوات الاتصال المسموعة والمرئية، كانت المجلة الجغرافية National Geographic Magazine في طبعتها الإنجليزية نافذتنا على ثقافات العالم المختلفة. (صدر العدد الأول من هذه المجلة عام 1888م. وتعنى مقالاتها بالجغرافيا والتاريخ والعلوم والتصوير وثقافات الشعوب المختلفة). لم نكن ندرك، آنذاك، ونحن نستمتع بقراءة مواد تلك المجلة، مقدار الجهد الذي يبذله المحرر، فالقارئ لا يعرف سوى اسمه. أما شخصيته فغالبا ما تكون تحت عنوان (موت المؤلف). اليوم، ومع تطور وسائل الاتصال، وتعدد قنوات البث التلفزيوني، يمكن ملاحظة ذلك الجهد بالألوان ولحظة بلحظة، والاقتناع بأن الإعلام بشكل عام هو مهنة المتاعب. اليوم، قد يؤدي طاقم تلفزيوني دور المجلة، لكنه لا يغني عنها طبعا، فينقل بلاغة الواقع بالكلمة والصورة الحية المتحركة. ويمكنك التعرف على شخصية المراسل، ويمكنك من خلال الصورة مرافقته (بالمشاهدة) إلى غرفة النوم في فندق أو تحت الناموسية الواقية من الحشرات في أدغال غابة. الآن، يمكن للمشاهد أن يلاحظ كم يتطلب ذلك الاستطلاع من قدرة تحمل وروح مغامرة وموهبة وتأهيل ورشاقة ذهنية. شاهدت مرة حلقة عن سيريلانكا وجزر المالديف. كانت المراسلة ذكية ومغامرة وقادرة على التكيف مع أي طقس بيئي أو ثقافي أو اجتماعي، مضافا إلى ذلك كله رشاقة ذهنية تتسع لكل ذلك التنوع والاختلاف بين الثقافات كافة.. مما يعني أن التأهيل وحده لا يصنع مراسلا أو محررا أو إعلاميا ناجحا. إن صناعة المادة الإعلامية بحاجة إلى إعلامي مؤهل وموهوب قادر على اكتشاف بلاغة الحياة، يلتقط الوقائع والمعاني الملقاة على قارعة الطريق، ويزيح ما علق بها من غبار وأتربة، ثم يصقلها ويلمعها قبل تقديمها للقارئ أو المشاهد، فهو مثل من»يصنع من الفسيخ شربات» كما يعبر الأخوة المصريون. ووراء كل جهد مميز شخص مبدع يؤمن بأن العمل الإعلامي منزلة بين الفن والعشق! [email protected]