"حسرة ما بعد الاستقلال" هو العنوان الذي يمكن أن نضعه فوق ملاحظات القادة التاريخيين للثورة الجزائرية، التي عبروا عنها في احتفالهم قبل اكثر من أسبوع بمناسبة مرور خمسين عاماً على اندلاع ثورة التحرير، الأمر الذي يستدعي سؤالاً هاماً هو: هل تلك الحسرة حالة جزائرية خاصة أم أنها حالة عربية أيضاً؟ (1) ليلة الاثنين الأول من نوفمبر الفائت شهدت العاصمة الجزائرية اجتماعاً حضره ثلاثة آلاف شخص. جاؤوا لكي يستمعوا إلى شهادات ثلاثة من قادة حرب التحرير التاريخيين عما حققته مسيرة الثورة بعد مضي نصف قرن على اندلاعها. كان الثلاثة هم حسين آية أحمد، وعبد الحميد مهري، ومولود حمروش. وكل واحد منهم كان له دوره المرموق أثناء حرب التحرير وبعدها. كانت الشهادات محبطة ومسكونة بالتشاؤم. حسين آية أحمد قال إن الثورة التي قامت من اجل التحرير ودفاعاً عن تقرير المصير، ما لبثت أن صادرت ذلك الحق بعد نجاحها وجلاء الفرنسيين. ولم نتمكن من إرساء القواعد الشرعية لإقامة الدولة الجزائرية، وقد تمت تلك المصادرة لحساب جهات اقرب إلى "المافيا" التي هيمنت على مقدرات الأمور في البلاد. عبد الحميد مهري قال: إننا لم نتمكن من إقامة الدولة الديمقراطية التي نادى بها بيان الأول من نوفمبر.. حتى بات الجزائريون يشعرون بان الدولة ليست دولتهم كما أنها ليست في خدمتهم. أما مولود حمروش فقد أعرب عن أساه "لان ما تم بناؤه في الجزائر غداة الاستقلال كان سلطة وليس دولة". حين وقعت على هذه الخلاصة التي تناقلتها وكالات الأنباء والصحف العربية غداة احتفال الجزائر بالمناسبة، خطر لي على الفور السؤال التالي: هل تصلح تلك العبارات لتوصيف أوضاع العالم العربي بعد الاستقلال؟ كان سؤالي في حقيقة الأمر تقريرياً وليس استفهامياً. بمعنى أنني لم اكن أتساءل عما إذا كانت العبارات المذكورة تنطبق على العالم العربي أم لا، لان الرد بالإيجاب مفروغ منه في هذه الحالة، بله من المعلوم في السياسة بالضرورة. من ثم فان الصيغة الادق للسؤال هي ألا تصلح وليس هل تصلح. لست مبالغاً فيما دعوت إلى الإقرار به، لان شهادات التعبير عن الشعور بالمرارة والإحباط إزاء ممارسات السلطة "الوطنية" التي قبضت على زمام الأمور بعد الاستقلال شائعة في كتابات النخبة العربية التي صدرت خلال العقدين الأخيرين على الأقل، وهي أوضح ما تكون في تقارير "التنمية البشرية" التي صدرت مؤخراً عن الأممالمتحدة، فضلاً عن أنها متواترة في العديد من إصدارات مراكز "دراسات الوحدة العربية" في بيروت، المهموم بقضايا الحاضر والمستقبل في العالم العربي. فنحن نجدها مثلاً في المؤلفات التالية: مداخل الانتقال إلى الديمقراطية في البلاد العربية ( علي خليفة الكواري وبرهان غليون) - مستقبل المجتمع المدني في المجتمع العربي (د. أحمد شكر صبيحي) - المحنة العربية: الدولة ضد الأمة (برهان غليون) - الديمقراطية من دون ديمقراطيين (أبحاث متعددة حررها د. غسان سلامة) - المعارضة والسلطة في الوطن العربي (بمشاركة 12 من المثقفين العرب) - الديمقراطية والتنمية في الوطن العربي (اشترك فيه 11 باحثاً عربياً). في هذه المؤلفات وأمثالها كان ثمة إجماع على أن أحلام سنوات الكفاح الوطني تبخرت بعد الاستقلال واحداً تلو الآخر، وان السلطة "الوطنية" في سمتها العامة لم تكن قوة دافعة نحو النهوض والتقدم، وإنما صارت عائقاً حال دون ذلك. (2) لن يستطيع أن يدرك مدى ذلك الإحباط وما استصحبه من حسرة ومرارة، إلا الذين عاشوا لحظة الحلم. وقد كان جيلنا من شهود (هل أقول ضحايا؟) تلك اللحظة التي كان الدكتور جمال حمدان من ابرز الذين عبروا عنها. خذ مثلاً ما سجله في كتابه "استراتيجية الاستعمار والتحرير"، الذي نشر ضمن سلسلة الهلال في عام1968، حين قال: إن ما بناه الاستعمار في خمسة قرون، هدمه التحرير في عقدين اثنين. فبين 1945 و1965 هوت رقعة الاستعمار في 35% من مساحة العالم إلى 4%. أي أن معدل سرعة المد التحريري يعادل عشرات أضعاف معدل الزحف الاستعماري... انها بلا ريب ثورة التحرير. وانه عصر ذوبان الاستعمار ما في ذلك شك، ونهاية الامبراطورية واوربة العالم. واذا كان القرن التاسع عشر قرن الاستعمار، فان القرن العشرين بحق قرن التحرير. ولئن كان الاول وباء القرن الماضي، فان التحرير اليوم ظاهرة معدية كما قيل. ولكنها عدوى صحية حين تبدأ لا تتوقف، وانما تتداعى في سلسلة من الافعال وردود الافعال حتى تشكل موجة مدية غلابة. ان الاستعمار الذي ولد ولادة غير طبيعية وغير شرعية، يموت الآن موتة طبيعية. بل لعلنا نكون اقرب الى الصواب اذا قلنا بالسكتة القلبية، ومعها - هذه الميتة - ينتقل الاستعمار من الجغرافيا السياسية الى الجغرافيا التاريخية، ويصبح من حفريات التاريخ السياسي. لقد تمت دورة كاملة من قيام وسقوط اوروبا. غير انه يقابل هذا التيار العام العالمي اتجاه محلي عكسي يمثل انتكاسة إلى الوراء. ففي الوقت الذي كان فيه الاستعمار الكبير ينحسر ويتصدع عالمياً، كان استعمار جديد - ودنيء - قد بدأ في فلسطين، هو الاستعمار الصهيوني.. غير انه إذا كان هذا الاتجاه التعس يدل على شيء، فإنما يدل على أن الاستعمار الصهيوني القميء، يأتي ضد كل تيار التاريخ، حتى التاريخ الرجعي، حتى تاريخ الاستعمار نفسه، وانه من ثم محكوم عليه قبلاً وبحتمية التاريخ بأنه قد ولد ليموت. بنفس درجة الحماس والنشوة تحدث الدكتور حمدان في موضوع آخر عن جغرافية التحرير من الاستعمار، مبتدئاً بالموجة الآسيوية، ومنتقلاً إلى الموجة العربية التي شهدتها الخمسينيات، ومنتهياً بموجة التحرير الأفريقية. وهو يتحدث عن الموجة العربية خصها بعنوان دال هو "قافلة الحرية" وإذ أشار إلى أن طلائعها ظهرت في لبنان وسوريا في الأربعينيات وأواخرها حلت في الستينيات مع استقلال الكويتوالجزائر، إلا انه ركز على ثورة يوليو 52 ومعركتها ضد قوى الهيمنة التي تحولت إلى نقطة تحول عظمى تجاوزت أصداؤها حدود العالم العربي وأفريقيا إلى العالم الخارجي. وكيف أن تجربة مصر "كانت نموذجاً للمغرب العربي ومثالاً للمشرق، وحجر الزاوية والقوة، والركن موقعاً ودوراً". ثم ختم بقوله "منذ ثورة يوليو الأم رصع العالم العربي بنسل دافق من الثورات التحريرية، تبدو كالأقمار حول الشمس أو كالنويات حول النواة. وكان لكل منها بدورها صداها العميق، ابتداء من الجزائر وانتهاء باليمن". (3) من يقرأ في الستينيات ذلك الحديث عن النسل الدافق من الثورات التحريرية، التي رآها الدكتور حمدان أقماراً رصعت الأفق العربي، ودارت حول شمس الثورة المصرية، لا يكاد يصدق عينيه وهو يقرأ شهادات الإحباط وخيبة الأمل التي وردت بعد أربعين عاماً على ألسنة أولئك النفر من قادة ثورة التحرير الجزائرية. لا بد أن تدهشه حقيقة أن ذلك العالم العربي الواعد في الستينيات لا يزال يعاني - بعد أربعين عاماً - من أزمات مستعصية في أهم مجالات التقدم الثلاثة: استقلال الإرادة والمشاركة الشعبية والتنمية بشقيها الاقتصادي والاجتماعي. ولعلمك فهذه ليست فقط مجالات للتقدم، وإنما هي أيضاً حيثيات الانتماء إلى التاريخ، الأمر الذي يعني أن عدم استيفائها يعني مباشرة فقدان الحيثية والخروج من التاريخ. أتحدث عن السمت العام، مدركاً أن ثمة استثناءات لا يقاس عليها هنا وهناك. بسبب من ذلك، فلست أجد تعبيراً أدق من "الفشل القومي" يمكن أن اصف به المشهد العربي بعد أربعين عاماً من انطلاق "قافلة الحرية" فيه. كما أنني لا أجد مبرراً للتفصيل الموجع في تجليات ذلك الفشل الذي يعيشه الناس ويلمسون آثاره ويطالعون أصداءه كل يوم في صحف الصباح. وربما أغناني عن أي تفصيل أن ألفت الانتباه إلى الكيفية التي تتعامل بها الولاياتالمتحدة وإسرائيل مع العالم العربي، وكيف انهما لا يقيمان له أي اعتبار، وحين يذكرانه فان ذلك لا يأتي إلا في سياق إعادة التشكيل، وإعادة التأهيل! لا يقف الأمر عند ذلك الحد، وإنما في حين بدا الأفق العربي قاتماً ومسدوداً، فان خرائط الدنيا تتسارع في تغيرها. الصغار كبروا، والكبار كثروا، وبعضهم تجبروا وتألهوا. بل أن البلاد التي رأيناها في الستينيات قرى ضعيفة الحال تبعث على الرثاء، نهضت واستوت واستقام عودها، وسبقتنا في كل مضمار، حتى انتمى بعضها إلى فصيلة "النمور" في سلم التقدم. أتحدث عن كوريا وماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة، ولا استثني اليونان وأسبانيا والبرتغال. سألني أحد الأصدقاء ذات مرة متعجباً: كيف تأتي لبلد مثل الهند تجاوز عدد سكانها مليار نسمة، أو بلد آخر مثل إندونيسيا التي يبلغ تعدادها حوالي 220 مليون نسمة، أن يجري كل منهما انتخابات ديمقراطية وحرة أدت إلى تداول السلطة فيهما، رغم ما يحفل به البلدان من تناقضات واضطرابات وتطرف وإرهاب، في حين عجزنا نحن عن ذلك في العالم العربي؟ وكيف نجحوا في ذلك دونما حاجة الى تطبيق قوانين استثنائية او تطبيق الاحكام العرفية؟ مثل هذه الأسئلة استنكارية كما لا يخفى عليك، لكنك لا بد أن تلاحظ أنها لا تقارن العالم العربي بما يحدث في أوروبا أو الولاياتالمتحدة، وإنما هي تعبر عن الدهشة إزاء تراجع أوضاعنا حتى بالمقارنة بنظائرنا في العالم الثالث. اجتاحني ذات الشعور بالمرارة حين قرأت في أحد أعداد "نيوزويك" الأخيرة (26/10) مقالاً افتتاحياً دعا فيه كاتبه - رئيس التحرير فريد زكريا - الولاياتالمتحدة إلى ضرورة التكيف مع نمو الدور الآسيوي في المشهد العالمي، معتبراً أن القرن الواحد والعشرين هو قرن آسيا بامتياز. واعتبر الكاتب أن الصين ستعيد صياغة ذلك المشهد خلال عقود قليلة، بعدما أصبحت تمثل رابع اكبر اقتصاد في العالم، وصار اقتصادها ينمو بوتيرة تزيد بثلاث أو أربع مرات عن معدلات نمو الاقتصادات الثلاثة الأولى. وقد أصبحت الصين الآن اكبر سوق مصدرة ومستوردة في العالم للكثير من السلع والمنتجات الصناعية والزراعية. وستصبح قريباً اكبر سوق مصدرة لرأس المال، إذ ستعمد إلى شراء الشركات في طول العالم وعرضه. تحدث الكاتب أيضاً عن الهند، التي تنمو بقدر مثير للإعجاب من الثبات والتصميم. وقال إنها بسبب حجمها فإنها تضيف ثقلاً هائلاً إلى الكفة الآسيوية، منبهاً في هذا الصدد إلى أن منطقة شرق آسيا تمر بفترة من الطفرة الاقتصادية لأكثر من 30 عاماً الآن، وان الآسيويين هم اكبر المدخرين في العالم. وقد مولت مدخراتهم الإنفاق على العجز الذي تعانيه الولاياتالمتحدة. تحدث أيضاً عن ريادة الولاياتالمتحدة في مجال العلوم والتكنولوجيا، وكيف أن تلك الريادة كانت أحد الأسباب التي مكنتها من السيطرة على الاقتصاد العالمي. ولكن آسيا بدأت تنافسها بقوة في ذلك المضمار. دلل على ذلك بملاحظة أن الأبحاث العلمية التي تنشرها مجلة "فيزيكال ريفيو" لعلماء أمريكان، بدأ يسجل انخفاضاً واضحاً. إذ هبطت نسبتها من 61% عام 1983 إلى 29% فقط في العام الماضي. وفي تفسير ذلك ابلغ رئيس تحرير المجلة صحيفة نيويورك تايمز أن السبب الرئيسي لذلك هو الصين، التي أصبحت تقدم الآن ألف ورقة بحث عالية القيمة سنوياً. لم يخطر على بالي أن اسأل كم بحثاً محترماً يقدمه العلماء العرب، لان فضيحتنا بجلاجل في هذا المضمار (وفي غيره أن شئت الدقة - وصفر المونديال خير شاهد) - ليس في مواجهة أمريكا أو الصين، بل حتى في مواجهة إسرائيل! (4) من الملوم فيما أصابنا؟ السؤال ليس جديداً بطبيعة الحال، ولكنه أحد الأسئلة المتداولة على ألسنة أهل النظر في العالم العربي والإسلامي منذ قرنين من الزمان على الأقل. وللأمير شكيب ارسلان مقالة شهيرة نشرتها مجلة "المنار" منذ 125 عاماً كان عنوانها "لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟" - (لاحظ ان العالم العربي وقتذاك جزء من الامبراطورية العثمانية) - ولحساسية الموضوع فان المقالة اعيد نشرها بعد ذلك اكثر من مرة، واستشهد بها الامير شكيب بعد ذلك في كتاب "حاضر العالم الإسلامي" في رده على أحد الكتاب الإيطاليين - البرنس جيوفاني بورجيز - ونشر الرد تحت عنوان بذات المعنى هو: لماذا الإسلام راق بذاته والشعوب الإسلامية غير راقية؟ طوال السنوات التي خلت كنا نتحدث عن أن الاستبداد سبب رئيس لما حل بنا (للعلم الصين ليست ديمقراطية، وكوريا وأسبانيا لم يكونا كذلك حين بدأتا رحلة النهوض)، ثم كنا نتحدث عن دور الاستعمار، والدور الذي لعبته إسرائيل في قلب خرائط المنطقة واستراتيجياتها منذ منتصف القرن الفائت. لكني وقعت مؤخراً على عرض لكتاب أحد الدبلوماسيين الإنجليز المخضرمين أدهشني مضمونه، وقلب عندي ذلك الترتيب. عرض الكتاب نشرته صحيفة الحياة اللندنية في 17/10. وعنوانه: زرع الريح - بذور الصراع في الشرق الأوسط، أما مؤلفه فهو جون كاي، وهو دبلوماسي تقلد مناصب عدة في سفارات بلاده بالمنطقة العربية. ومن الواضح انه بذل جهداً كبيراً في إعداد كتابه، دفعه إلى الغوص في الوثائق والمعاهدات العلنية والسرية الخاصة بالمنطقة وفي الارشيفات العثمانية والبريطانية والفرنسية، ولم يترك حتى مذكرات أهل السياسة الذين شاركوا في صناعة تاريخ المنطقة. ومن أهم الخلاصات التي خرج بها الرجل من إبحاره في تلك المحيطات ما يلي: @ أن الشرق الأوسط بسبب موقعه الفريد في قلب العالم، ظل ولا يزال مطمعاً لكل الدول الكبرى. فلم تقم أي إمبراطورية إلا وحاولت ضمه إليها. ولم تنهض أي دولة إلى مصاف القوى الكبرى دون أن تضعه نصب أعينها. والشرق الأوسط له قلب هو: سورية ومصر ولبنانوفلسطين والعراق. ولذلك حرصت الدول الكبرى دائماً على الدخول إلى المنطقة من بواباتها. @ أن الدول الغربية هي التي رسمت الخريطة السياسية للمنطقة بعد الحرب العالمية الأولى. وهي التي أبقت على تماسكها معظم الوقت ضمن الحدود التي رسمتها بعد انهيار الدولة العثمانية. وهي التي حالت دون تفتتها دون وحدات إقليمية اصغر، وحالت دون اندماجها في تجمعات إقليمية اكبر. في هذا السياق بدت خطوة الوحدة المصرية السورية (58 - 61) بمثابة خروج على قواعد "اللعبة". وقد انتهت التجربة بسرعة. وظلت حدود "سايكس - بيكو" محفوظة. @ أن الدول العربية تتحمل المسئولية الكبرى عن التاريخ السياسي المضطرب للمنطقة. والقرن المنصرم في قراءته المعمقة ليس سوى قرن من التدخل الغربي في صناعة المنطقة، وصوغها وفقاً لمصالحه الاستراتيجية، خصوصاً فيما يخص الطاقة وخطوط التجارة الكبرى. هو في الوقت ذاته قرن من فشل الغرب في صوغ سياسية متماسكة وعادلة في الشرق الأوسط. @ أن الدول الغربية الكبرى دأبت على زرع الريح في المنطقة منذ مستهل القرن العشرين، فحصدت عواصف الاضطرابات السياسية، التي ما فتئت تهز المنطقة بل والعالم أيضا. @ أن السياسات الغربية الظالمة والمخادعة والمتغطرسة في المنطقة العربية، تتحمل إلى حد كبير المسئولية عن السلوك السياسي المتطرف الذي اتسم بالعنف معها. ففي التجربة المصرية مثلاً، لم يكن سعد زغلول متطرفاً، ولا كان جمال عبد الناصر معادياً للغرب، ولكن المراوغات والغطرسة الغربية هي التي دفعتهما للاصطدام بالغرب. (5) يفاجئنا هذا الكلام حين يصدر عن باحث غربي كان سفيراً لدولته "العظمى" في المنطقة. وهو لا يعفينا من المسئولية بأي حال، لكنه يبصرنا بحقيقة حجم الدور الذي قام به الغرب - ولا يزال - في صياغة خرائط المنطقة وتكبيل سياساتها للإبقاء على الدور المهيمن فيها. وهو الدور الذي أشاع قدراً غير قليل من الإحباط واليأس فيها، على النحو الذي نشهده في خطاب النخبة في مختلف عواصم العرب. بل أن ذلك الإحباط تجاوز حدود النخبة إلى أن شاع بين عوام الناس، حتى إنني سمعت في الجزائر أن سيدة فاض بها الكيل، فسألت ابنها ذات مرة قائلة: الاستعمار الذي عشنا أيامه السوداء انتهى أمره، متى ينتهي اجل هذا الاستقلال الذي لم نر في أيامه خيراً؟!