رحل الكاتب والروائي الطاهر وطار عن أربع وسبعين عاماً تحت وطأة المرض، مات الرجل، المولود عام 1936 لأسرة بربرية إبان الشراسة المتعاظمة والتنكيل الذي لم يعرف هوادة بالمقاومة الجزائرية التي انتمى إليها شاباً يافعاً.. مات هكذا ببساطة حتى دون أن يدري وفقد الوعي تماماً ثم استكان. انخرط الوطار في حزب السلطة، جبهة التحرير الوطنية الجزائرية قبل التحرير، ثم استقل، بعد ذلك، أو أُحيل إلى التقاعد في سنّ التاسعة والأربعين، عُرِف الرجل لا بسلاطة لسانه وقوة حجته وثقافته العربية والإسلامية راسخة الجذور بل ببسالته أيضاً، وكان مثقفاً لا يتورع عن الشتم ولا عن التطاول على أولئك الكتّاب الجزائريين المتفرنسين أو الفرانكوفونيين بتعبير أكثر تلطيفاً، والتي تعني نوعاً من الكونية أو العولمة الفرنسية، رغم أنه يتقن الفرنسية ورغم أن العديد من بين أولئك قد برزت أعمالهم الروائية في الثقافة الفرنسية الخارجة للتو من الاحتلال النازي والتي اضطرت تحت وطأة شدة المقاومة وحراكها السياسي في عالم ثنائي القطبية آنذاك إلى الانسحاب من الجزائر، ومن أمثال هؤلاء الكتّاب يبرز مثلاً الروائي محمد ديب صاحب ثلاثية “الدارة الكبيرة” و”الحريق” التي تنبأ فيها بأفول الاستعمار الفرنسي، وكذلك جمال الدين بن الشيخ صاحب “الشعرية العربية مقالة حول خطاب نقدي” الذي قدم أطروحة علمية صارمة حول الشعر العربي أربكت الاستشراق الفرنسي، وإعادة ترجمته ألف ليلة وليلة في فترة الاحتدام السياسي بين الشرق والغرب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 وسواها من الكتب فضلاً عن أنه أستاذ للكثير من الأكاديميين والمثقفين الفرنسيين والعرب، من بينهم محمد بنيس مثلاً الذي قدّم أطروحته حول الشعر العربي الحديث تحت إشرافه.. ومَن قُدّر له أن يرى الرجل ينتقد هؤلاء الكتّاب، ولو بروح الفكاهة والدعابة فيما ينتقد الخطاب الجزائري بالفرنسية يشعر أن في أصل الكلام ألماً نابعاً من تجربة شخصية مباشرة مع الاستعمار الفرنسي، بدأت مع طفولته وشبابه المبكّر وسطوة ذلك الاستعمار على مصائر الأفراد ومحاولاته تجنيد أي أحد لصالح استمراره، رغم أن ديغول كان لاجئاً في لندن هارباً من الاحتلال النازي، عداك عن قصص التعذيب النفسي والجسدي التي قدر للعديد الخروج من السجون والمصحات العقلية الاستعمارية التي يدخل إليها الناس عقلاء ويخرجون منها غير أسوياء، ربما هذه الأسباب جميعاً قد خلقت هذا النوع من العداء الأبدي بين الرجل ولغة الاستعمار وجعله التحرير المشرف الذي حققه الجزائريون يرفع من قيمة اللغة العربية بدرجات عالية جداً مقابل “لغة استعمارية”، وبالتالي النظر إلى الكتابة بالعربية بنوع من الفخر والاعتداد بالذات ومن ثم رجم الكتّاب الجزائريين بالفرنسية بالخيانة أحياناً. إن تقديس الكتابة بالعربية لدى الشاب الطاهر وطّار كان مشبعاً بالسخرية من فرنسا التي تحررت من النازيين بواسطة جيوش غير فرنسية. لكنّ الطاهر وطّار المثقف الشاب في الستينيات كان مثقف خيبة أصلاً؛ إلغاء التنوع السياسي والاجتماعي في الدولة الفتية والانقلابات غير الديمقراطية المتتالية على أيدي العسكر والإبقاء على الارتباط الجيوسياسي بفرنسا، ووصول الانتهازيين إلى مراكز القرار في السلطة والإخفاق في إحداث حركة التعريب التي كان يحلم بها أن تعيد للجزائر هويتها العربية بعد مئة وثلاثين سنة من عبودية الاستعمار. ربما من هنا هذا العناد في الثبات على موقفه طيلة عمره، وربما من هنا جاء مزيج الخيبة بالحزن والغضب الذي عبّر عنه في مقولاته السياسية الثقافية كما في أعماله الأدبية التي كانت فاتحتها “الشهداء يعودون هذا الأسبوع” التي هي قصة شاهد عيان بالتأكيد. إنما، لايمكن وصف الطاهر وطار بالمعنى الكلاسيكي السبعيني بأنه “كاتب ثوري” أو روائي ينتمي إلى الواقعية الاشتراكية أو سواها من المدارس الأدبية، بل ظلّ حتى في كتاباته اللاحقة ناقداً راصداً لكل الظواهر السلبية في المجتمع الجزائري، ولم يتوقف عن الحراك الثقافي في بلده وخارجه وعن مقاومة الفرانكوفونية إلى حدّ أنه كان يثير حفيظة الكتّاب الذين يكتبون بالفرنسية والعربية على السواء. كان ذا مظهر بسيط يوحي بالهدوء التام والدعة وفيه شيء من الطفولة وكأنه “رجل في حاله” لا علاقة له بشيء، ومع ذلك، وضمن حراكه الثقافي أنشأ ما أسماه الجمعية الثقافية الجاحظية، بعد رحيله لا أحد يعلم ما مستقبلها، لتكون فضاء ثقافياً يجمع الكتّاب الجزائريين ورغم المآخذ عليها من أنها ذات خطاب أحادي وسلطة فردية من قبل الطاهر وطار، ظلت فضاء ثقافياً جامعاً حتى عندما انطلق جنون الحرب الأهلية الجزائرية في الشوارع، وحصد ما حصد، وقبل هذه الجمعية بكثير، عام 1973 أسس أسبوعية “الشعب” وأراد لها أن تكون منبراً يسارياً ديمقراطياً لكن السلطات أغلقتها. وحتى في رواياته الأخيرة لم يتورع الرجل عن توجيه النقد بهذا الاتجاه أو ذاك منذ انقلبت الثورة الجزائرية على نفسها، وكتابته “الشهداء يعودون هذا الأسبوع” هي التي قامت عليها أساساً شهرة الرجل في المنطقة العربية إجمالاً، وحتى عندما انقلبت الجزائر على نفسها في التسعينيات الدامية من القرن الماضي، لم يعد الرجل جزائرياً فحسب بل كان فلسطينياً ولبنانياً وعراقياً الخ.. وكله بسبب هذه المجموعة المباغتة بلغتها البسيطة وفكرتها الأبسط. ولمن لا يعرف، فالقصة تتحدث عن الصراعات الاجتماعية التي نشأت عن قيام نظام الحزب الواحد والخراب الاجتماعي الذي تسبب به، إنما بطريقة مواربة/ مفضوحة تماماً، حيث تصل رسالة إلى رجل عجوز من بلد بعيد يخبره فيها ابنه الشهيد بأنه سيعود إلى القرية بعد عشرة أيام، خلال ذلك يتعرض الطاهر وطّار إلى صراع أهالي الشهداء على ما تركوه من إرث عائلي أو امتيازات ومستحقات نالها الأهل بسبب استشهاد أبنائهم وآبائهم، لكن الحوار الأكثر جوهرية في القصة، على الأرجح، يدور بين الرجل العجوز، والد الشهيد، والمسؤول الحكومي في القرية الذي قُتل أبوه على يد الشهيد ابن العجوز لتعاونه مع الاحتلال الفرنسي إبان الثورة: “” كيف أمسيت يا عمي العابد. رفع إليه بصره: الشاب عبد الحميد، شيخ بلدية القرية بخير. تعال، يا عبد الحميد يا ابني أريد أن أسألك. خير إن شاء الله يا عمي العابد. بصفتك شيخ بلدية القرية ومدير مدرستها، أردت أن أسألك. تفضل. ماذا يكون موقفك كشيخ بلدية لو يعود شهداء القرية كلهم أو على الأقل البعض منه. لماذا هذا السؤال يا عمي العابد؟ وقال لنفسه، إذا ما عاد مصطفى ابنك، فسأنتقم لأبي، سآكل لحَمهُ بأسناني. في حين راح الشيخ العابد يؤكد لنفسه، لن أحدثه عن مصطفى فهو الذي اغتال أباه الخائن. مجرد سؤال خطر بذهني، وأرجوك أن تجيبني عنه بصراحة.. بكل صراحة. الأمر بالنسبة لي بسيط، إنهم مسجلون في سجل الوفيات، وعليهم أن يثبتوا حياتهم من جديد. لن يتسنى لهم ذلك حتى تنتهي مدة انتخابي على الأقل. لكن الأمر يتعلق بشهداء.. بمجاهدين حقيقيين أعني. وإن كان. ماذا تعني؟ لن يلبثوا أسبوعاً، حتى يتزيفوا، سيؤولون إلى ما آل إليه غيرهم. وإن عادوا بسلاحهم؟! تتعداني المسألة إذ ذاك وتصبح متعلقة بالدولة”. هنا المسألة، فلا ثورة على الزيف والانتهازية من الممكن أن يقودها الشهداء الذين حلموا بيوتوبيا أخرى. إذن فقد أخفق الحلم، هكذا ببساطة. يكفي القول إن قصة هذا المثقف والمبدع النقدي الكبير قد جرت مسرحتها عراقياً في يوليو الماضي، وعرضت في بغداد وتعرض الآن في عدد من الدول الأوروبية، وكذلك فلسطينياً أواخر العام الماضي، وعرضت في دمشق وسابقاً في رام الله في أعقاب اتفاقيات أوسلو 1994، كما في الثمانينيات والسبعينيات من القرن الماضي، فضلاً عن ترجمتها إلى العديد من اللغات الحية. وأخيراً، فإن صاحبها قد نال جوائز عديدة من بينها جائزة الشارقة لخدمة الثقافة العربية عام 2005، وذلك قبل فوزه بجائزة الرواية لمؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية ل2009. من أعمال الطاهر وطار المجموعات القصصية: دخان من قلبي، تونس 1961 والجزائر 1979و2005 والطعنات، الجزائر 1971و2005 والشهداء يعودون هذا الأسبوع، العراق 1974 والجزائر 1984 و2005). المسرحيات: على الصفة الأخرى، مجلة الفكر تونس أواخر الخمسينيات، والهارب، مجلة الفكر تونس أواخر الخمسينيات والجزائر 1971 و2005. الروايات: اللاز الجزائر 1974 وبيروت 82 و83 والجزائر 1981 و2005، والزلزال، بيروت 1974 والجزائر 81 و2005، والحوات والقصر، الجزائر - جريدة الشعب 1974 وعلى حساب المؤلف في 1978 والقاهرة 1987 والجزائر 2005، وعرس بغل بيروت عدة طبعات بدءاً من 1983القاهرة 1988 والجزائر في 81 و2005، والعشق والموت في الزمن الحراشي بيروت 82 و83 الجزائر 2005، وتجربة في العشق بيروت 89 والجزائر 89 و2005، ورمانة الجزائر 71 و81 2005 والشمعة والدهاليز، الجزائر 1995 و2005 والقاهرة 1995 والأردن 1996 وألمانيا دار الجمل2001، والولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي الجزائر 1999 و2005 والمغرب 1999 وألمانيا دار الجمل 2001 والولي الطاهر يرفع يديه بالدعاء، الجزائر جريدة الخبر 2005 والقاهرة أخبار الأدب 2005.الترجمات: ترجمة ديوان للشاعر الفرنسي فرنسيس كومب بعنوان الربيع الأزرق.